القيم وآفاق الإصلاح حقيقة كذلك، بل هي الحقيقة الإنسانية الراقية، أمَّا الواقعية البليدة التي تنكر قدرة الإنسان على السمو، وتسعى إلى تمريغ النفس الإنسانية في تراب القذارة، فهي من إفرازات دارون وماركس وفرويد والبراجماتزم، واقعية رعناء جثمانية شهوانية؛ ذلك أن النفس الإنسانية لا تنحصر في الطعام والكساء والجنس والرغبات المادية.
(والفنون الحديثة تنحو هذا المنحى الأحمق، لكي تكون فنونًا واقعية، الفنانون والنقاد المحدثون يسخرون من الفنون القديمة التي كانت تبرز الجانب الأبيض من الإنسان كأنما كله فضيلة!، ويدعون في مقابل ذلك إلى تسجيل الإنسان بحسب واقعه، يعني تسجيل الجانب الأسود من طبيعته وكأنما كله رذيلة! أستغفر اللَّه! إن الحديث عن الفضيلة والرذيلة من تراث الماضي البائد الذي يجعل للفنون وللحياة كلها هدفًا أخلاقيًا، وتلك أفكار رجعية، نحن اليوم معنيون بدراسة "الواقع" وتسجيله صافيًا من الخرافات والأوهام!.
وفي ظل هذه العقيدة راح الفنانون الغربيون يمزقون الإنسان مزقًا ويمرغونه في الوحل، نزوات الجسد، نوازع الفطرة، صراع الحيوان، خسة الطبع، التواء المشاعر، هذه هي الدراسة الحديثة للإنسان كما ينعكس من كثير من ألوان الفن الحديث.
وما أريد أن أقول إن البشر ملائكة، ولا إن الفن ينبغي أن يصورهم ملائكة، ولكن الواقعية الحقة ينبغي أن تشمل الواقع الكبير، وأن تكون أكثر إشادة باللحظات الشفافة الرائعة منها باللحظات المعتمة الغليظة؛ لأن الواقع الأكبر يقول: إن هدف الحياة ليس مجرد استمرار الحياة على سطح الأرض، وإنّما هو الوصول بها إلى مرتبة الجمال والكمال.
صراع الجسد حقيقة، غلبة التوازن الفطرية على المبادئ والمثل حقيقة، ضعف الإنسان ورضوخه لنزواته حقيقة، ولكن ارتفاعه فوق الواقع حقيقة كذلك يلمسها كل إنسان في نفسه حين يحقق كيانه كإنسان. والفن ينبغي أن يشمل الواقع كله بلا تمييز، الواقع الأكبر والأصدق في التصوير.