للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخلق والأمر إلى أي شيء سوى اللَّه تعالى، وتلقي الأوامر والتشريعات والنظم والمناهج من كل أحد سوى اللَّه -جلَّ وعلا-، أمّا من هو هذا السوى؟ فإن الحداثة العربية تجيبك بأنه كل إله يمكنهم اتخاذه شريطة ألا يكون هذا الإله هو اللَّه -جلَّ جلاله-.

وهذا هو منطق الكفر منذ القدم كما أخبر اللَّه تعالى في كتابه العظيم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)} (١).

(والآية تصف واقعة حال على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين كان المشركون يهشون ويبشون إذا ذكرت آلهتهم، وينقبضون وينفرون إذا ذكرت كلمة التوحيد، ولكنها تصف حالة نفسية تتكرر في شتى البيئات والأزمان، فمن الناس من تشمئز قلوبهم وتنقبض نفوسهم كلما دعوا إلى اللَّه وحده إلهًا، وإلى شريعة اللَّه وحدها قانونًا، وإلى منهج اللَّه وحده نظامًا، حتى إذا ذكرت المناهج الأرضية والنظم الأرضية والشرائع الأرضية هشوا وبشوا ورحبوا بالحديث، وفتحوا صدورهم للأخذ والرد، هؤلاء هم بعينهم الذين يصور اللَّه نموذجًا منهم في هذه الآية، وهم بذاتهم في كل زمان ومكان، هم الممسوخو الفطرة، المنحرفو الطبيعة الضالون المضلون، مهما تنوعت البيئات والأزمنة، ومهما تنوعت الأجناس والأقوام) (٢).

وإذا أردنا أن نستدل لهذه الحقيقة القرآنية التي بها تجلت نفسيات هؤلاء، وعقلياتهم القائمة على الصدود والإعراض عن اللَّه الملك الحق المبين، والاستكبار الواهن الضعيف على اللَّه القوي الشديد؛ فإننا نجد الكثير الوفير من أقوالهم ومواقفهم، وقد سبق منها جملة مفيدة في الدلالة على هذا الشأن، ولا بأس بالإثبات بجملة أخرى تؤكد أن هذا المعنى -في نسبة الخلق إلى غير اللَّه- وهو نوع من الانحراف في توحيد الربوبية -ليس


(١) الآية ٤٥ من سورة الزمر.
(٢) في ظلال القرآن، لسيد قطب ٥/ ٣٠٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>