للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تنطلق الحداثة الغربية والعلمانية وفروعها العربية من منطلق جعل الإنسان "إلهًا" وجعل "الإنسانية" دينًا، وفصل علاقة الإنسان باللَّه ربًا وإلهًا.

وقد أخذ الحداثيون العرب هذا المفهوم من أساتذتهم الغربيين، تحت ستار تلاقح الثقافات، والعقلانية، ونحو ذلك من العبارات التي يشوشون بها على ضعفاء الدين والعقل، يقول أحد المفكرين الغربيين وهو يؤصل النزعة الإنسانية: (. . . الإنسان لا يحيا إلّا حياة واحدة، ولا تحتاج إلى ضمان أو دعامة من مصادر عالية على الطبيعة، وأن العالي على الطبيعة الذي يصور عادة في شكل آلهة سماوية، أو جنات مقيمة ليس موجودًا على أية حال، ففلسفة النزعة الإنسانية تسعى على الدوام إلى تفكير الناس بأنه مقرهم الوحيد هو هذه الحياة الدنيا، فلا جدوى من بحثنا في غيرها عن السعادة وتحقيق الذات، إذ ليس ثمة مكان غيرها نقصده، ولابد لنا نحن البشر من أن نجد مصيرنا وأرضنا الموعودة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه وإلّا فلن تجدهما على الإطلاق) (١).

هذا المعنى الإلحاديّ منقول بحذافيره -إن لم يكن نصًا مترجمًا فمعنًى مؤصلًا- عند أكثر الحداثيين والعلمانيين العرب.

فها هو يوسف الخال ومحمد جمال باروت يقرران أن (العلمنة في معناها العميق انعطاف من الإله إلى الإنسان، ومن مملكة العرب إلى مملكة الإنسان وبذلك لم يعد الإنسان يرى العالم نتاج إلهيّ أبديّ بل وجد نفسه أمام نظام من صنع يديه، لا استئناف لأحكامه إلى سلطة عليا، ومن هنا تغيرت نظرة الإنسان إلى العالم تغيرًا جذريًا، فلا شيء محرم على العقل، فعوض عالم مستقر آمن قائم على قواعد ثابتة لا تتزعزع، وجد الإنسان نفسه، شيئًا فشيئًا في عالم لا قواعد ثابتة له، عالم على ساكنيه أن يعيدوا بناءه بأيديهم وعلى صورتهم ومثالهم، هكذا أصبح الإنسان أكثر من أي وقت


(١) القول لـ "لامونت" وقد نقلته من قضايا وشهادات، من مقال لمحمد جمال باروت ص ٢٥٩ وعنوانه "تجربة الحداثة ومفهومها" في مجلة شعر.

<<  <  ج: ص:  >  >>