وقد نصح هوراس شعراء الرومان بأن يلتزموا بالتقاليد السائدة وأن يحافظوا على تراث الأسلاف وتقديم ذلك في ثوب أدبي ممتع، فقال مخاطبًا الشاعر:(إن عليك أن تلتزم بالتقاليد، أو ترى أن ابتكاراتك ملائمة، ومن الأمن لك أن تلتزم بالتقاليد ومفخرتك ستكون أعظم إذا تناولت بأسلوب جديد أفكارًا استهلك استعمالها بدلًا من محاولة الابتكار، أولًا: لأن هناك إشباعًا في الأفكار القديمة، ثانيًا: لأن السحر الحقيقي للأدب ينبع من القدرة على رؤية الأشياء القديمة بأسلوب حديث. . .)(١).
ومن هذه المنطلقات عند اليونان والرومان انطلق الفكر الغربي الذي استدبر الأديان واستقبل الأوثان، فلا تجد فلسفة من الفلسفات المعاصرة ولا مذهبًا من المذاهب الأدبية إلّا وهي تتضمن عقيدة ما، وتعبر عن فكرة، وتهدف إلى غاية ما.
والمتتبع لحركة الأدب الإنسانيّ يجد أنه أحد أهم الوسائل المعبرة عن فكر ومعتقد صاحبه سواء كان هذا الأدب شعرًا أو نثرًا، رواية أو مقالة أو نقدًا، وحتى الذين يزعمون أنهم لايخدمون بأدبهم قضية ولا يلتزمون بعقيدة، ولا يهدفون إلى غاية، هم في حقيقة الأمر ملتزمون بهذه الفكرة ومنتمون إليها ويهدفون إلى نشرها، وهذا في حد ذاته اعتقاد ومضمون فكريّ.
إن دعاة الفن للفن، وأصحاب الوجودية الجديدة المسماة بـ "اللامنتمي" يناقضون أنفسهم غاية المناقضة حين يزعمون أنهم بلا عقيدة ولا غاية ولا هدف من أعمالهم الأدبية والتأليفية، ذلك أن هذه الفكرة في حد ذاتها عقيدة، شاؤوا ذلك أم أبوا.
وهم على كل الأحوال -في دعواهم هذه- يرسمون لأنفسهم صورة من التفاهة والنقص والجبن حين يستترون خلف شعار "الأدب لا عقيدة له"، وهم يكذبون على أنفسهم حين يقولون ذلك ويدعون إليه، فلو لم تكن هذه
(١) موجز تاريخ النقد الأدبي: ص ٢٦، تأليف فيرنون هول، ترجمة: محمود شكري مصطفى وعبد الرحيم جبر.