يَشْهدُونَ المَخْلُوقَات قَائِمَة بِأَمْر الله مُدبَّرَة بمشيئته، بل مُستجيبة لَهُ قانتة لَهُ؛ فَيكون لَهُمْ فِيهَا تَبصرة وذكرى، ويكون مَا يَشهدونه مِنْ ذَلِك مؤيدًا ومُمِدًّا لما فِي قُلُوبهم من إخلاص الدِّين، وتَجْرِيد التَّوْحِيد لَهُ والعِبَادَة لَهُ وحده لَا شريك لَهُ.
وهَذِه هِيَ الحَقِيقَة الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا القُرْآن، وقَامَ بهَا أهلُ تَحْقِيق الإِيمَان والكُمَّل من أهل العرْفَان، ونَبِينَا -صلى الله عليه وسلم- إِمَام هَؤُلَاءِ وأكملهم، ولِهَذَا لما عُرج بِهِ إِلَى السَّمَاوات وعاين مَا هُنَالكَ من الآيَات، وأُوحي إِلَيْهِ مَا أُوحِي من أَنْواع المُنَاجَاة- أصبح فيهم وهُو لم يَتَغَيَّر حَاله، ولَا ظهر عَلَيْهِ ذَلِك، بِخِلَاف مَا كَانَ يظْهر على مُوسَى من التَّغَشِّي صلَّى الله عَلَيْهِم وسَلَّم أَجْمَعِينَ.
وأمَّا النَّوْع الثَّالِث: مِمَّا قد يُسَمَّى فنَاء، فَهُو أَنْ يَشْهد أَنْ لَا مَوْجُود إِلَّا الله، وأَن وجود الخَالِق هُو وجود المَخْلُوق، فَلَا فرق بَين الربِّ والعَبْد، فَهَذَا فنَاء أهل الضلال والإلحاد الواقعين فِي الحُلُول والاتحاد، وهَذَا يبرأ مِنْهُ المَشَايِخ، إِذْ قَالَ أحدهم: مَا أرى غيرَ الله، أَوْ لَا أنظر إِلَى غير الله، ونَحْو ذَلِك؛ فمرادهم بذلك مَا أرى رَبًّا غَيره، ولَا خَالِقًا ولَا مُدبرًا غَيره، ولَا إِلَهًا لي غَيره، ولَا أنظر إِلَى غَيره محبَّة لَهُ، أَوْ خوفًا مِنْهُ، أَوْ رَجَاء لَهُ؛ فَإِنْ العين تَنظر إِلَى مَا يتَعَلَّق بِهِ القلب؛ فَمن أحبَّ شَيْئًا أَوْ رجاه أَوْ خافه التفت إِلَيْهِ، وإِذا لم يكن فِي القلب مَحبَّة لَهُ ولَا رَجَاء لَهُ ولَا خوف مِنْهُ ولَا بغض لَهُ ولَا غير ذَلِك مِنْ تعلق القلب لَهُ- لم يقْصد القلب أَنْ يلتَفت إِلَيْهِ، ولَا أَنْ ينظر إِلَيْهِ، ولَا أَنْ يرَاهُ، وإِن رَآهُ اتِّفَاقًا رُؤْيَة مُجَرَّدَة- كَانَ كمن لَو رأى حَائِطًا ونَحْوه مِمَّا لَيْسَ فِي قلبه تعلُّق بِهِ.
والمشايخ الصَّالحون رَضِي الله عَنْهُم يذكرُونَ شَيْئا من تَجْرِيد التَّوْحِيد وتَحْقِيق إخلاص الدَّين كُله؛ بِحَيْثُ لَا يكون العَبْدُ مُلتفتًا إِلَى غير الله، ولَا نَاظرًا إِلَى مَا سواهُ؛ لَا حبًّا لَهُ، ولَا خوفًا مِنْهُ، ولَا رَجَاء لَهُ، بل يكون القلب فَارغًا من المَخْلُوقَات، خَالِيا مِنْهَا لَا ينظر