والكلام في مسألة النِّيَّة شديد الارتباط بأعمال القلوب ومعرفة مراتبها وارتباطها بأعمال الجوارح وبنائها عليها وتأثيرها فيها صحةً وفسادًا، وإنَّما هي الأصل المراد المقصود، وأعمال الجوارح تَبَعٌ ومكمِّلة ومتمِّمة، وأنَّ النية بمنزلة الرُّوح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء، الذي إذا فارق الروح فمَوَات، وكذلك العمل إذا لم تَصحبه النية فحركة عابث؛ فمعرفة أحكام القلوب أهم مِنْ معرفة أحكام الجوارح؛ إذ هو أصلُها، وأحكام الجوارح متفرِّعة عنها.
والمؤمنون العارفون بالله وبأمره قاموا له بحقيقة العبودية ظاهرًا وباطنًا، وقدَّموا قلوبهم في الخدمة، وجعلوا الأعضاء تبعًا لها، وهي حقيقة العبودية، ومن المعلوم أنَّ هذا هو مقصود الربِّ بإرسال رُسُله وإنزال كُتُبه وشرعه شرائعه. ومَن تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأنَّ أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كلِّ واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما، وهل يمكن لأحدٍ الدخول في الإسلام إلَّا بعمل قلبه قبل جوارحه؛ فعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كلِّ وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان، فمركب الإيمان القلب، ومركب الإسلام الجوارح (١).
إن أساس القبول لأيِّ عبادة هو إخلاص القلب فيها لله تعالى؛ فإن حقيقة العبادة ليست شكلًا فقط، وإنَّما هي سِرٌّ يتعلق بالقلب، ويَنبع من الرُّوح، فإذا لم يَصْدُق قلب المسلم في عبادته، ولم يُخلص لله في طاعته- صارت كالجسد بلا رُوح، وساعتها
(١) انظر «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٣/ ١٨٧ - ١٩٣).