فالصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، ولا قال قط أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه.
ثالثًا: كذلك عامة أهل العربية الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله، كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري، هم يتكلمون في متشابه القرآن كله، وفي تفسيره و معناه. وليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها (١).
وقال المصنف:"وهذا مع أنه باطل فهو متناقض"
انتقل المصنف من بيان بطلان القول بأن معاني النصوص لا يعلمها إلا الله، إلى بيان تناقض هذا الزعم في نفسه.
فمن نفى لا بد له من دليل يستدل به على نفاه، ولا دليل لهم، ذلك لأنها مسألة إثبتها الشرع، فهؤلاء لما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر-كان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى-فبقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف.
وهذا التردد هو الذي وقع فيه من قال بالتفويض من هؤلاء كالبيهقي والرازي، فهم لم يلتزموا بهذا القول مطلقاً بل غالباً ما يخالفونه كما فعل الرازي في تأسيسه حيث جنح إلى التأويل وترك القول بالتفويض.
فقول هؤلاء المفوضة لا يعدو أن يكون ملأ فراغ بدون مستند شرعي، ولا أدل على ذلك من انقسامهم على أنفسهم وترددهم فيما يدعون كما سبق من بيان أقوالهم.