وأراد بها الجواب عن سؤاله، بيانه أن يقال: يجب على كل أحد إحياء نفسه بدفع الديّة وبدفع أكثر منها وبدفع جميع ما يملكه لإبقاء نفسه، وقد أجمعوا أن الولي إذا طلب من القاتل شيئًا مُعَيَّنًا ليترك قتله؛ فإنه يجب عليه فيما بينه وبين الله أن يدفع إليه ذلك الشيء لحقن دمه، ومع هذا لو أبى وامتنع من ذلك لا يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرهًا، فكذلك الدية إذا طلبها ولي المقتول يجب على القاتل فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفعها إليه؛ حقنًا لدمه، فإن أبى وامتنع لم يجبر عليه ولا يؤخذ منه كرهًا، وكذلك يجب على كل أحد إحياء غيره إذا خاف التلف عليه، مثل أن يرى إنسانًا قصد بالقتل أو خاف عليه الغرق يجب عليه تخليصُه، أو كان معه طعام وخاف عليه أن يموت من الجوع، فعليه إحياؤه بطعامه وإن كثرت قيمته، فإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه، فعلى الولي إحياؤه إذا أمكنه ذلك، فوجب على هذه القضية إجبار الولي على أخذ المال إذا بَذل القاتل، وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص أصلًا؛ لأنه إذا كان على واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال وإسقاط القود، فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات كثيرة؛ كان عليه أن يعطيه؛ لأنه لا يختلف فيما يلزمه إحياء نفسه حكم القليل والكثير.
فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة؛ كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده ..
فإن قيل: احتج المزني للشافعي ومن تبعه في هذه المسألة، وقال: لو صالح في حد القذف على مال أو كفالة نفس؛ لبطل الحد والكفالة، ولم يستحق شيئًا، ولو صالح في دم عمد على مالٍ، صح باتفاق الجميع.
فدل ذلك على أن دم العمد مالٌ في الأصل، لولا ذلك لما صح الصلح، كما لم يصح عن حد القذف والكفالة.