للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ونداؤه: هذا جزاء ... فأقول قد صدق المنادي

وبقي يخاطبه بقوله: "هذا جزاء"، والطالب لا يفهم، بل صار يعيدُها تبعًا لشيخنا دون فهم المقصود، فإنه لو فهمه ما ذكره.

وقد قال محمَّد بن إسحاق صاحبُ "المغازي" فيما رويناه في "النوادر والنُّتَف" لأبي الشَّيخ ابن حيَّان الحافظ: يعجبني مِنَ القُّراء كل ضحَّاك بسَّام، طلْقُ الوَجْهِ، ليس الذي تلقاه ببشاشةٍ ويلقاك بوجه عبُوسٍ، يمتَنُّ عليك بعلمه، لا أكثر اللَّه في القُرَّاء مثل ذلك.

وممَّا رأيته مما هو دالٌّ على لُطف ذاته وجميل عِشْرَتِه: أنَّني بينما أنا أقرأ عليه بعضَ عواليه في بعض اللَّيالي على العادة، إذ حضر بعضُ أصحابه وهو العلَّامة نور الدين بن سالم، وكنتُ أنا وإياه وسط النَّهار بين يدي شيخنا، سمع معي (١) شيئًا ممَّا (٢) قرأته، فعندما رآه شيخُنا مقبلا أشار إليَّ أن إذا أمرتك بالإعادة، لا تفعل، ووصل فجلس، فقال له شيخ الإِسلام: ما هذا الحال، تغيب عن السَّماع في هذا المرويِّ العالي؟ فالتفت إليَّ، وقال: لِمَ لَمْ تُعلمني بذلك حيث كنت أنا وإياك السَّاعة؟ فلم أُجِبه وصِرتُ أقرأ وشيخُنا يبالغ في وصفه بالتَّقصير عن تفويت مثل ذلك، وهو -أعني ابن سالم- يحثُّ عليَّ في الإعادة، ولا أجيبه بكلمة إلى أن تعبَ، فقال لشيخنا: قل له يفعل، ففعل لكنِّي امتثلتُ إشارته السَّابقة، وصِرْتُ في خجل. كلُّ هذا بأدنى إشارة، مع سكون وإطراقٍ وعدم مزيد حركة, ممَّا لا أستطيعُ التَّعبير عنه.

وكان رحمه اللَّه يخصُّ ابن سالم مِنْ ذلك بما لم أره يُكثر فعله مع غيره. رأيته عند سفر ابن سالم إلى صفد -وما التقيا بعدها في غالب الظَّنِّ- وشيخُنا يقولُ له: يا شيخ فلان، شيخك ابنُ الكُوَيْك يروي "الشفا" غايةً في العُلوِّ، فما كان بأسرع مِنْ إخراجه الدَّواة والقلم، وشرع يستملي منه ذلك، فأخذ يتلاهى عنه، تارةً بالبحث والتقرير، وتارة بالكتابة على


(١) "معي" ساقطة مِنْ (أ).
(٢) في (أ): "ما".