للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذلك معي مرارًا. فقلت في نفسي: أنا أجيءُ مِنَ المكان البعيد، وهو لا يعبأ بي، فعسى أن يحصُل خللٌ أو تحريفٌ، وصِرْتُ في ألَمٍ بذلك. فأضمرتُ في نفسي يومًا أنَّني أتعمَّدُ إسقاط شيءٍ أمتحنُه به، ففعلت ذلك. فبمجرَّدِ أن مررتُ فيه، رفع رأسه وقال: أعِدْ، فأعدت القراءة على الصَّواب، فأطرق (١)، وعلمت أنه غيرُ غافلٍ عني.

قلت: ورأينا منه العجب في ذلك.

وقد قال الخطيب في "تاريخ بغداد": حدثني الأزهري، قال: بلغني أن الدارقطني حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصّفار، فجلس ينسخُ جزءًا، والصَّفار يُملي، فقال له رجل: لا يصِحُّ سماعُك وأنت تنسخُ. فقال الدارقطني: فهمي للإملاء خلافُ فَهْمِك. تحفظ كم أملى الشيخ؟ فقال: لا. قال: أملى ثمانية عشر حديثًا، الحديث الأول: عن فلان عن فلان، ومتنه كذا. والحديث الثاني: عن فلان عن فلان، ومتنه كذا. ثم مرَّ في ذلك حتى أتى (٢) على الأحاديث، فتعجب النَّاس منه، أو كما قال.

وحكى العماد ابن كثير عن شيخه المِزِّيّ أنَّه كان يكتب في مجلس السماع ويَنْعَس في بعض الأحيان، ويرُدُّ على القارىء ردًا جيدًا بيِّنًا واضحًا، بحيث يتعجَّبُ القارىءُ ومَنْ حضر.

وحكى ذلك الذهبيُّ أيضًا في ترجمته مِنَ "الحفَّاظ" فقال: وكان يطالع وينقُل الطِّباقَ إذا حدَّث، وهو في ذلك لا يكادُ يخفى عليه شيْءٌ ممَّا يقرأ، بل يَرُدُّ في المتن والإسناد ردًا مفيدًا، يتعجَّب منه فُضلاءُ الجماعة.

قلت: وهكذا كان صاحبُ الترجمة كما تقدم، بل ربما قُرىء عليه بعد العشاء وهو ناعس، فيرُد أيضًا، وإن لم يكن أهل الحديث يتركونه يتمادى في النُّعاس.

ومن أظرف ما رأيتُه في ذلك: أنَّ بعضَ طلبته مِنْ أصحابنا رآه مُطْرِقَ


(١) "فأطرق" ساقطة من (ب).
(٢) في (أ): "مرَّ".