صاحبُ التَّرجمة قائلًا له: مولانا قاضي القضاة أحبَّ إتحاف الجماعة بإجازته، لعلمه بحصولها لهم في كلِّ وقت منَّا.
واستمر شيخنا منفصلًا عَنِ القضاء، مخلصًا في عدم الرغبة إلى العَوْدِ إليه حتى مات، وما ذاك إلَّا لإرادة الخير به، وإلَّا فقد سمعتُه مرارًا عقِبَ عزله بالقاياتي يحكي عن بعض الأكابر قوله: ما سُررنا بالولاية، لكن ساءنا العزلُ. وقال في "شرح البخاري" عند حديث "تجدون خير الناس في هذا الشأن -أي الولاية والإمرة- أشدّهم له كراهية": معناه أنَّ الدُّخول في عهدة الإمرة مكروه مِنْ جهة تحمّل المشقَّة فيه، وإنَّما تشتدُّ الكراهةُ له مِمَّن يتَّصفُ بالعقل والدِّين، لما فيه مِنْ صعوبة العمل بالعدل وحمل النَّاس على رفع الظلم، ولما يترتب عليه مِنْ مطالبة اللَّه تعالى للقائم به مِنْ حقوقه وحقوق عباده، ولا تخفى خيريَّةُ مَنْ خاف مقامَ ربِّه.
وأمَّا قوله:"وتجدون مِنْ خير النَّاس أشدَّ النَّاس كراهيةً لهذا الشأن حتى يقع فيه"، فإنه قيَّدَ الإطلاقَ في الرِّواية الأولى، وعرف أنَّ "مِنْ" فيه مُزادةٌ، وأن مَنِ اتُّصفَ بذلك، لا يكون خيرَ النَّاس على الإطلاق.
وأمَّا قوله:"حتى يقع فيه"، فاختُلفَ في معناه، فقيل: معناه: أن مَنْ لم يكن حريصًا على الإمرة، غير راغبٍ فيها، إذا حصلت له بغير سؤالٍ تزولُ عنه الكراهة فيه، لما يرى مِنْ إعانة اللَّه تعالى له عليها، فيأمن على دينه مَنْ كان يخاف عليه منها قبل أن يقع فيها، ومِنْ ثمَّ أحب بعضُ مَنْ دخل فيها مِنَ السَّلفِ الصَّالحِ استمرارها حتى قاتل عليها، وصرَّحَ بعضُ مَنْ عُزِلَ منهم، بأنَّه لم تسرّه الولاية، بل ساءه العزل. وقيل: المراد بقوله: "حتى يقع فيه"، أي: فإذا وقع فيه، لا يجوز له أن يكرهه. وقيل: معناه أنَّ العادة جرت بذلك، وأنَّ مَنْ حرَصَ على الشَّيء ورغِب في طلبه، قلَّ أن يحصُلَ له، ومَن أعرض عَنِ الشَّيء، وقلَّت رغبتُه فيه، يحصل له غالبًا.
قلت: وقد قال بعضهم:
حُمِلْتُ على القضاء فلم أُرِدْه ... وكان عليَّ أثقلَ مِنْ ثبيرِ