للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والآجال وسائر الأحكام، فوفَّق قومًا لحفظ أُصول الشريعة، وبيان الصحيح مِنْ ذلك والفاسد، ووفَّق قومًا لمعرفة معاني ذلك، واستنباط الأحكام منها، فكما لم نَعِبْ أبا ثورٍ بترك ذكر الطُّرق والأسانيد، كذلك لا نعيبُ أولئك بترك الاستنباط، إذ لكل مقام مقالٌ، وإنما العيبُ لاحقٌ بمن لم يشتغل بواحدٍ من الطرفين، وربما اجتهد الإنسان فيهما فوُفِّق لهما، قال اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: ٦٩]، فمن قدم النيّة للَّه في شيء، وجدّ فيه وجده. انتهى.

وقد سئل صاحب الترجمة رحمه اللَّه عن رجل اشتغل بعلم الحديث، وقرأ فيه على أهله أصلًا من أصوله، وبحثه وفهمه فهمًا ودراسة، ومارس أهله وحضر مجالسهم: هل يقومُ له ذلك مقام علوِّ السند، أو يُعتبر علوُّ السَّند؟ وهل إذا كان كذلك، تترجّحُ مروياته على من علا سنده، ويبلغ بعلُوِّ درجته في الفن درَجةَ المرتفعين بعلو السند، وكثرة المسموعات والمقروءات؟ وأيهما (١) أولى بأن يؤخذ عنه، ويقرأ عليه، فأجاب بما قرأته من خطه:

لا يكون حافظًا ولا محدّثًا في الاصطلاح إلا مَنْ عرفَ الأمرين، ومارس الفنين، وأما مَنِ اقتصر على أحدهما، كمن اقتصر على المرويات، ومارس القراءة والسماع، ورحل في ذلك للقاء الأشياخ (٢)، وحصّل مِنْ ذلك ما يُطلق عليه اسم الاستكثار مِنْ ذلك عُرفًا، وأهمل -مع ذلك- معرفة الاصطلاح، بحيث لا يصلُح أن يُدَرِّسه ويُفيدُه، فهذا يقال له: مِسنِد وراوٍ، وقد يطلق عليه اسم مُحدِّث، لكن بالنسبة لمن جمع الأمرين، إنما يقال له ذلك مجازًا.

وإن اقتصر على معرفة الاصطلاح المتعلق بالأنواع حتى فهمه، وصلح أن يُدَرسه ويُفيده، فهذا يقال له: عالم بعلوم الحديث، ولا يسمّى مُحدثًا أصلًا، ولا يترجّح ما عنده من رواية على رواية الأول، إذا كان أعلى


(١) في (أ): "وأيهم".
(٢) في هامش بخط المصنف: "في الشيوخ".