للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المراد إيضاح ذلك بجوابٍ شافٍ للنفس يشرَحُ الصَّدرَ، ويزيلُ اللَّبْسَ، يحقِّق ذلك كلَّه، وما يُعتمَدَ وما يكون الآتي به متبعًا لا مبتدعًا.

فأجاب بما نصُّه:

أما ما وقع في السُّؤال مِنْ أنَّ الإمام إذا سلَّم التسليمة الثانية، جعل وجهه إلى المشرق وظهره إلى المغرب، فلعلَّه خصَّ ذلك بالبلد الذي هو بها، حيثُ تكونُ القبلةُ بين المشرق والمغرب، فينحرِفُ هو إلى جهة المشرق، وهي جهةُ يسارِه، ويُقبِلُ بوجهه على مَنْ هو على يمينه حين الائتمام، وهذا هو الذي يظهر مِنْ حديث البراء بن عازب رضي اللَّه عنهما، ولكن الذي يتحصَّل مِنْ مجموع أحواله -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه كان لا يفعل ذلك ديْدَنًا، بل هذا الفعل خاصٌّ بما إذا أراد أن يجلِسَ في مصلَّاهُ بعدَ انقضاء الصَّلاةِ للوعظ والافتاء وغيرهما مِنْ مصالح المسلمين، وهو لائق بالصلاة التي لا نافلة بعدها كالصبح، فقد صحَّ أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يلبَثُ في مصلاه حتى تطلُعَ الشمسُ حسناء. وأما إذا كانت بعد الفريضة نافلةٌ كالظُّهر، فإنه كان ينصرف إلى منزله على يساره؛ لكون حجرة عائشة وغيرها مِنْ نسائه رضي اللَّه عنهن كان مِنْ جهة يسار القبلة، ولذلك قال بعضُ الصَّحابة رضي اللَّه عنهم: كثيرًا ما رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينصرف عن يساره، رادًّا على مِنْ كان يرى استحباب الانصراف عن يمينه، ويراه حتمًا لا يعدل عنه (١). وهذا الانصراف غير الانصراف الذي نُقِلَ في السُّؤال عَنِ الفقهاء، فإنَّ الانصرافَ الذي ذكروه هو الحركة بعد السلام مِنَ الصلاة، وهذا هو الحركةُ (٢) عندَ إرادةِ التوجُّه مِنَ المسجد، وكان انصرافه هذا الثاني إلى منزله، ليستريح ويصلي فيه حينئذٍ سنة الظهر التي بعدها، وكذا كان يصلي سُنَّةَ الطهر التي قبلها في منزله؛ لأنه كان إذا فرغ مِنَ المصالح، توجه عند القيلولة إلى منزله ثمَّ يخرُح لصلاة الظُّهر، كما جرى له حين جاءه وفدُ عبدِ القَيْسِ، فشغلُوه فلم يُصَلِّ الركعتين بعد الظهر حتى دخل منزله بعد صلاة العصر، فصلاهما فيه.


(١) في (ب) و"جمان الدرر": "ويراه احتمالًا يعدل عنه".
(٢) في (أ): "في الحركة".