الثاني: قال ابن أبي جمرة: فيه دليل على تحري النبي - صلى الله عليه وسلم - للصدق في المقال، وأنه لا يترك الحقيقة ويرجع إلى المجاز إلا فيما لابد منه، ووجه ذلك: أن من كان بهذه الحالة لو قال: إنه يقظان؛ لصح ذلك مجازًا، لأن نوم الجوارح مع يقظة القلب أقرب إلى اليقظة، فصحّ إطلاق اليقظة عليه لكنه بين الأمر الواقع على حقيقته.
الثالث: قوله: (بين الرجلين) إن حُمل على أنه نائم بين اثنين؛ يؤخذ منه تواضعه - صلى الله عليه وسلم - في نومه بين رجلين، وحسن خلقه، وذلك أمر مشهور عنه عليه الصلاة والسلام حتى قال:"إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد".
وقوله للذي ارتعد منه:"إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة".
الرابع: فيه على هذا الوجه جواز نوم الجماعة في مكان واحد، بشرط أن يكون على كل منهم ما يستره عن صاحبه.
الخامس: ذكر بعضهم أن قوله: (أتيت بطست من ذهب) وهو إناء يتخذه الناس لغسل أيديهم وحوائجهم، وهو مبسوط القاع معطوف الأطراف إلى ظاهره؛ قال: فيه دليل على فضيلة هذا الإناء لتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - به من بين الآنية.
وأما كونه ذهبًا، فلا يعترض به، لأن القصة كانت قبل تحريمه على الأمة، وأيضًا المستعمل له الملائكة الكرام فليسوا كالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو بني آدم في ذلك.
السادس: احتج بعض العلماء بقوله: (مملوء حكمة وإيمانًا) على أن الحكمة والإيمان جواهر محسوسات لا معاني، لأن المعاني ليس لها أجسام حتى تملأ الإناء، ولأن الإناء لا يمتلئ إلا بالأجسام والجواهر.
وهذا نص من الشارع بخلاف ما ذهب إليه المتكلمون من أن الإيمان والحكمة أعراض. قال ابن أبي جمرة: (والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إليها إدراك ولا من النبوة بها إخبار؛ أن الإخبار عن حقيقتها غير حقيقة وإنما هو غلبة ظن، لأن للعقل بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق؛ حدًا يقف عنده ولا يتسلط فيما عدا ذلك ولا يقدر أن يصل إليه. فهذا وما أشبهه منها، لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي ذكرها الشارع -عليه السلام- في