طال العمر بالبلقيني حتى لم يبق من العلماء من يدانيه فضلًا عن أن يزاحمه، وظل مقبلًا علي الاشتغال بالعلم تدريسًا وفتوى، ولم يكمل مصنفاته لأنه كان يشرع في الشيء ولسعة علمه وكثرة محفوظه يطول عليه الأمر، حتى أنه كتب من شرح البخاري علي نحو عشرين حديثًا مجلدين، ورغم سعة علمه وقوة حفظه وشدة ذكائه إلا إنه كان سريع البادرة سريع الرجوع للدليل والحق إن فاته، وكان مجتهدًا مطلقًا واستكمل آلة الاجتهاد، ولكن خوفه من أن يلقي نفس مصير ابن تيمية شيخه وقدوته ظل مجتهدًا في نطاق المذهب الشافعي، وقد رزق قبولًا عند الناس في كل مكان، فلا تركن النفس إلا لفتواه، وقد عده علماء زمانه أحد المجددين فقالوا:"إن اللَّه يبعث علي رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها بدئت بعمر؛ يعني عمر بن عبد العزيز، وختمت بعمر؛ يعني البلقيني".
وتوفي نهار الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة سنة (٨٠٥) وصلى عليه ولده جلال الدين، ودفن بمدرسته بعد عمر مديد قضاه في خدمة الإسلام وعلومه، فعليه سحائب الرحمة والرضوان.
وقد رثاه تلميذه ابن حجر وغيره بقصائد طويلة يقول ابن حجر في مطلعها:
يا عين جودي لفقد البحر بالمطر ... وأدري الدموع ولا تبق ولا تذر
أقضي نهاري في هم وفي حزن ... وطول ليلي في فكر وفي سهر
وغاص قلبي في بحر الهموم أما ... ترى سقيط دموعي منه كالدرر
فرحمة اللَّه والرضوان يشمله ... سلامة ما بلى باك على عمر
لقد أقام منار الدين متضحا ... سراجه فأضاء الكون للبشر
من لو رأه ابن ادريس الإمام إذن ... أقرا وقر عيونا منه بالنظر
فحقق كم له بالفتح من مدد ... تحقيق رجوي نبي اللَّه في عمر
والقصيدة طويلة جدًّا ولمن يريد مراجعتها فهي في كتاب بدائع الزهور لابن إياس.