في سِلْكهم وترفُّعًا عن مساعدة الجماهير واستنكافًا من القناعة بأديان الآباء ظنًّا بأنّ إظهار التكايُس - في النُّزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل - جمال، وغَفْلةً منهم عن أنّ الانتقال إلى تقليد عن تقليد خَرْقٌ وخيال، فأيةُ رُتبة في عالم الله أخَسُّ من رتبة من يتجمَّلُ بتَرْك الحق المعتقَد تَقليدًا بالتّسارع إلى قبول الباطل تصديقًا؟ فلما رأيتُ هذا العِرْقَ من الحماقة نابضًا على هؤلاء الأغبياء، ابتدأتُ لتحرير هذا الكتاب ردًّا على الفلاسفة القدماء مبيَّنًا تهافت عَقِيدتهم وتناقُضَ كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفًا عن غَوَائل مذهبهم وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العُقلاء، أعني ما اختَصَّوا به عن الجماهير من فنونِ العقائد مع حكاية مذهبهم على وجهه.
ثم صَدَّرَ الكتاب بمقدِّماتٍ أربع، ذكر في الأُولى أن الخوض في حكاية اختلاف الفلاسفة تطويلٌ، فإنّ خَبْطَهم طويل ونزاعهم كثير، وإنه يقتصر على إظهار التناقض في رأي مقدمهم الذي هو المعلم الأول والفيلسوف المطلق، فإنه رَتَّب علومهم وهَذَّبها، وهو أرسطاطاليس، وقد رَدَّ على كلِّ مَن قبله حتى على أُستاذه أفلاطن. فلا إيقان لمذهبهم، بل يَحكُّمون بظنٍّ وتَخْمين، ويستدلُّون على صدق علومهم الإلهيّة بظهور العلوم الحِسَابيّة والمنطقية متقنة البراهين ويَستدرجونَ ضعفاء العقول، ولو كانت علومهم الإلهيّةُ مُتقَنةَ البراهين لَما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحِسَابيّة. ثم المترجمون لكلام أرسطو لم ينفكّ كلامهم عن تَحْرِيفٍ وتبديل، وأقوَمُهم بالنقل من المُتفلسفة الإسلامية: أبو نَصْر الفارابي وابن سينا، وإنه يقتصر على إبطالِ ما اختاروه ورأوه الصَّحيحَ من مذهب رؤسائهم وعلى رد مذاهبهم بحسَب نَقْل هذين الرجُلَيْن كيلا ينتشر الكلام.