الإفهام الثاني: في أنَّ العِلْمَ والكتابة من لوازم التَّمدُّن.
واعْلَم أَنَّ نوع الإنسانِ لمّا كانَ مَدَنيًّا بالطبع وكانَ مُحتاجًا إلى إعلام ما في ضَمِيره إلى غيره، وفَهم ما في ضَمِير الغير اقتضت الحكمة الإلهية إحداث دَوَالّ يَخْفِي عليه إيرادها ولا يحتاج إلى غير الآلات الطبيعية، فقادَهُ الإلهام الإلهي إلى استعمالِ الصَّوْت وتَقْطِيع النَّفْسِ الضَّرُوري بالآلة الذاتية إلى حُروفِ يمتاز بعضُها عن بَعْض باعتبار مخارجها وصفاتِها حتى يَحْصُلَ منها بالتركيب كلمات دالة على المعاني الحاصلة في الضَّمِيرِ فيتيسر لهم فائدة التَّخاطبِ والمحاورات والمقاصدِ التي لا بُدَّ منها في معاشهم.
ثم إِنَّ تَرْكيباتِ تلكَ الحُروف لمّا أمكنت على وجوه مختلفة وأنحاء متنوعة حَصَلَ لهم ألسنةٌ مُختلفةٌ، ولغات متباينة، وعُلوم متنوّعة.
ثم إِنَّ أَرْبابَ الهمم مِن بين الأمم لمّا لم يكتفوا بالمحاورة في إشاعة هذه النِّعَم لاختصاصها بالحاضرينَ سَمَت هِمَّتهم السامية إلى إطلاع الغائبينَ ومن بَعْدَهم على ما استَنْبَطُوه من المعارف والعلوم وأتْعَبُوا نُفُوسَهُم في تحصيلها لينتفع بها أهل الأقطارِ ولتزْدادَ العُلوم بتلاحُقِ الأفكار وَضَعُوا قواعد الكتابة الثابتة نُقُوشُها على وجه كُلِّ زمانٍ ويَحثُوا عن أحوالها من الحركات والسكناتِ والضَّوابط والنُّقاط، وعن تركيبها وتَسْطِيرها لينتقل منها النّاظِرونَ إلى الألفاظ والحروف، ومنها إلى المعاني فنشأ من ذلك الوَضْع جُملةً العلوم والكُتُب.
الإفهام الثالث: في أوائل ما ظهر من العِلْم والكتاب.