للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وحاصل الطريقة الثانية: الاستكمال بالقوَّة العمليَّة والتّرقِّي في درجاتِها التي أوَّلُها: تَهذيبُ الظاهر باستعمال الشّرائع والنواميس الإلهية، وثانيها تهذيب الباطن عن الأخلاقِ الذَّميمة، وثالثها: تحلِّي النَّفْس بالصُّوَر القدسيّة الخالصة عن شوائب الشُّكوك والأوهام، ورابعها: ملاحظةُ جَمال الله تعالى وجَلالِهِ وقَصْرُ النظر على كماله. والدرجة الثالثة من هذه القوة وإن شارَكتها (١) المرتبة الرابعة من القوَّة النَّظَرِيَّة في أنّها تَفِيضُ على النَّفس منها صُورُ المعلومات على سبيل المشاهدة كما في العَقْل المستفاد إلّا أنّها تُفارقها من وجهَيْنِ؛ أحدُهما: أنّ الحاصل في المستفاد لا يخلو عن الشُّبُهَاتِ الوَهْميَّة؛ لأنّ الوَهْمَ له استيلاء في طريقِ المُباحَثة بخلافِ تلك الصُّوَر القُدسيَّة، فإنّ القوى الحِسيَّة قد سُخّرت هناك للقوَّة العَقْليّة فلا تُنازعُها فيما تحكم به. وثانيهما: أن الفائض على النَّفْس (٢) في الدرجة الثالثة قد تكونُ صُوَرًا كثيرةً استعدَّت النَّفْسُ - بصفائها عن الكُدورات وصقالتها عن أوساخ التعلقات - لأن تُفيض تلك الصُّوَرُ عليها كمِرآة صُقِلت وحُوذِيَ بها ما فيه صُوَرٌ كثيرة، فإنه يتراءى فيها ما يتّسع هي من تلك الصُّور، والفائضُ عليها في العقل المستفاد هو العلوم التي تُناسب تلك المبادئ التي رُتبت معًا للتّأدي إلى مجهول كمرآة صُقِل شيء يسير منها فلا يرتسم فيها إلا شيء قليل من الأشياءِ المُحاذِيةِ لها.

قال ابن خَلدون في "المقدِّمة" (٣): وأما العلومُ العَقْليَّة التي هي طبيعة للإنسان من حيثُ أنه ذو فكر، فهي غيرُ مختصَّةِ بمِلَّة، بل يوجَدُ النَّظَرُ فيها لأهل الملل كلّهم ويَستَوُونَ في مَداركها ومباحثها، وهي موجودة في النَّوع


(١) في الأصل: "شاركته".
(٢) قوله: "على النفس" سقط من م.
(٣) المقدمة، ص ٦٣٠ - ٦٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>