للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عسرة صعبة، ذاق فيها ألوان التعب والمشقة، وما وصل بغداد إلاَّ وفي جسمه دماميل من طول السفر، وقد حدثت له مع شيخه ابن البَطِر قصة رواها السِّلفي وبكى من جَرَّاء ما وقع له فيها، يقول : «دخلت بغداد في الرابع والعشرين من شوال، فبادرتُ إلى ابن البَطِر، فدخلتُ عليه، وكان عسِراً، فقلت: قد وصلتُ من أصبهان لأجلك، فقال: اقرأ ـ ونطق بالراء غيناً ـ فقرأتُ متَّكئاً من دماميل بي، فقال: أبصِر ذا الكلب! فاعتذرتُ بالدماميل، وبكيت من كلامه، وقرأت سبعة وعشرين حديثاً، وقمتُ، ثمَّ ترددتُ إليه، فقرأت عليه خمسة وعشرين جزءاً، ولم يكن بذاك» (١).

ومع قسوة كلام ابن البطر لم يهز ذلك شيئاً في نفسية المحدِّث الرَّحَّال، الذي هَمُّه التقاء الشيوخ والسماع منهم، فرجع إلى شيخه وسمع منه أحاديث وسجل بعضها في أول هذه المشيخة.

وبقي في بغداد مشتغلاً بمدارسة العلماء من كلِّ فنٍّ، فقد كانت مدينةَ العلم آنذاك، تزخر بالعلوم، وكان للمدرسة النِّظَامية أثر واضح في كثرة العلماء والعلوم التي يدرسونها، فقد سمع فيها السِّلفي، ودرس الفقه والحديث على شيوخها، ولم يكتف بما في تلك المدرسة، بل سمع من كلِّ عالم وفقيه وأديب في المدينة غربيِّها وشرقيِّها، يذهب إلى دورهم ومساجدهم، يتلقى عنهم أنواعاً من العلوم والمعارف، فكان كما قال عنه ابن ناصر: «كان ههنا ـ يعني السِّلفي ـ ببغداد كأنَّه شُعلة نار في تحصيل الحديث» (٢).

وذكر في هذه المشيخة الأماكن التي سمع واستفاد فيها من شيوخه، فلم يترك محلَّة ولا مدرسة ولا درباً ولا بيتاً ولا سوقاً سمع فيها إلاَّ وذكرها، حتى إنَّه من شدَّة عنايته بالسماع والتلقي فقد كان يسمع وهو في وسط نهر دجلة، كما قال: «أخبرنا الشيخ أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج، بقراءتي عليه وأنا في السفينة وسط


(١) سير أعلام النبلاء (١٦/ ٤٦)، تاريخ الإسلام (١٢/ ٥٧١).
(٢) التقييد (ص ١٧٩)، السير (٢١/ ٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>