قال ابن تيمية: "وَشِرْكُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَتَعْطِيلُهُمْ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ شِرْكِ الْقَدَرِيَّةِ وَتَعْطِيلِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْفَلَكَ هُوَ الْمُحْدِثُ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، فَلَمْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شَيْئًا أَحْدَثَهُ، بِخِلَافِ الْقَدَرِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوا عَنْ إِحْدَاثِهِ أَفْعَالَ الْحَيَوَانِ وَمَا تَوَلَّدَ عَنْهَا. فَقَدْ لَزِمَهُمُ التَّعْطِيلُ مِنْ إِثْبَاتِ حَوَادِثَ بِلَا مُحْدِثٍ وَتَعْطِيلِ الرَّبِّ عَنْ إِحْدَاثِ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَإِثْبَاتِ شَرِيكٍ فَعَلَ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ.
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الرَّبَّ مَا زَالَ عَاطِلًا عَنِ الْفِعْلِ حَتَّى أَحْدَثَ الْعَالَمَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: مَا زَالَ وَلَا يَزَالُ مُعَطَّلًا عَنِ الْإِحْدَاثِ، بَلْ عَنِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ مَا لَزِمَ ذَاتَهُ كَالْعَقْلِ وَالْفَلَكِ لَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ فِعْلًا لَهُ؛ إِذِ الْفِعْلُ لَا يُفْعَلُ إِلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَأَمَّا مَا لَزِمَ الذَّاتَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ بِمَنْزِلَةِ لَوْنِ الْإِنْسَانِ وَطُولِهِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلًا لَهُ، بِخِلَافِ حَرَكَاتِهِ فَإِنَّهَا فِعْلٌ لَهُ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَحَرِّكًا كَمَا يُقَالُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ: إِنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَإِنَّ الْقَلْبَ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنَ الْقِدْرِ إِذَا اسْتَجْمَعَتْ غَلَيَانًا، فَكَوْنُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ فِي نَفْسِهِ يَقُومُ بِهِ فِعْلُهُ يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعْقُولٍ، بِخِلَافِ مَا لَزِمَهُ لَازِمٌ يُقَارِنُهُ فِي الْأَزَلِ، فَهَذَا لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُثْبِتُونَ لِلرَّبِّ فِعْلًا أَصْلًا، فَهُمْ مُعَطِّلَةٌ حَقًّا.
وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ إِنَّمَا أَثْبَتُوا الْعِلَّةَ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عِلَّةً غَائِيَّةً، كَحَرَكَةِ الْفَلَكِ، فَإِنَّ حَرَكَةَ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ بِالِاخْتِيَارِ كَحَرَكَةِ الْإِنْسَانِ، وَالْحَرَكَةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُرَادٍ، فَيَكُونُ هُوَ مَطْلُوبَهَا.
وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْفَلَكَ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى كَحَرَكَةِ الْمُؤْتَمِّ بِإِمَامِهِ وَالْمُقْتَدِي بِقُدْوَتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى تَشْبِيهِهِ بِحَرَكَةِ الْمَعْشُوقِ لِلْعَاشِقِ، لَيْسَ الْمَعْنَى أَنْ ذَاتَ اللَّهِ مُحَرِّكَةٌ لِلْفَلَكِ، إِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ مُرَادَ الْفَلَكِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute