للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكُلُّ مَنْ كان بالله أعرفَ وله أَعْبَدَ ودُعَاؤُهُ له أكثرَ وقَلْبُهُ له أَذْكَرَ كان علمُه الضروريُّ بذلك أقوى وأكملَ، فالفطرة مُكَمَّلَةٌ بالفطرة المنزَّلة؛ فإن الفطرةَ تعلم الأمر مُجْمَلًا والشريعة تُفَصِّلُهُ وتُبَيِّنُهُ وتَشْهَدُ بما لا تَسْتَقِلُّ الفطرة به، فهذا هذا، والله أعلم» (١).

فالله تعالى فطر القلوب على إثبات علوه عز جل، ولذلك لما تكلم أبو المعالي الجويني في إنكار صفة العلو؛ وقال على المنبر: كان اللهُ ولا عَرْشَ، فقال له أبو جعفر الهمداني: يا أستاذ دَعْنَا مِنْ ذكر العرش- يعني لأن ذلك إنما جاء في السَّمْعِ- أَخْبِرْنَا عن هذه الضرورة التي نَجِدُهَا في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قَطُّ (يا الله) إلا وَجَدَ مِنْ قَلْبِهِ ضَرُورَةً تَطْلُبُ العُلُوَّ، لا تلتفت يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حَيَّرَنِي الهمذانيُّ، حَيَّرَنِي الهمدانيُّ، ونزل (٢).

فالله سبحانه وتعالى فطر هذه القلوب على إثبات علوه عز وجل فأنت في كل أحوالك إذا سألت الله اتَّجهت إلى جهة واحدة، وهي جهة العلو، فلا تلتفت يمنة ولا يسرة؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر القلوب على معرفته، ومن ذلك جواب الجارية على النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سألها الجارية: «أين الله؟». فقالت: «في السَّماء». فقال -صلى الله عليه وسلم-: «أَعْتِقها؛ فإنَّها مؤمنة» (٣).

فإذًا هذا أمرٌ مغروسٌ في الفِطَرِ، الله تعالى فَطَرَ الناس على ذلك، وما من إنسانٍ صاحب فطرةٍ سليمة إلا وهذا الأمر في فطرته، وهذا يؤكده حديث الجارية، لما سألها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، وهذا جاء في صحيح مسلم.

بل إن هذا أمرٌ مغروسٌ في فطر الأمم جميعًا، على اعتقاد بأن الله تعالى في


(١) «مجموع الفتاوى» (٤/ ٤٥).
(٢) انظر: «مجموع الفتاوى» (٤/ ٤٤).
(٣) أخرجه مسلم (٥٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>