للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أصِفُه، فلمَّا أصبحت أُخبرتُ عَنْ شخصٍ مِنَ الأعيان أنَّه ترك وظيفته (١) بالشَّيخونية، وسافر. قال: فجئتُ -يعني صاحبَ الترجمة- وكان ذلك قبل استقراره في القضاء، وكنتُ أراه بمنزلة الوالد، فأعلمتُه بذلك، فبادر وتوجَّه معي إلى ناظرها، فوصف له حالي، فقرَّرني فيها، ولم يكتَفِ النَّاظر بذلك، بل أنعم بثوبٍ بعلبكِّيِّ وبأقماع سكَّرٍ ودراهمَ جيدة، وانصرفنا فتوجه معي أيضًا إلى القاضي ناصر الدين البارزي صاحب ديوان الإنشاء، فتفضَّل أيضًا، وكان ذلك ابتداءُ الخير، ثم جات الغنيمةُ شَيئًا فشيئًا، وتحقَّقتُ أنَّ هذا كلَّه ببركةِ الإمام الشافعي. انتهى.

وجاء إلى صاحب الترجمة شخص آخر مِمَّن نال منه كثيرًا، بل ربما شافهه بالمكروه، فتلطَّفَ في خطابه، وكان مِنْ جُملة قوله له: كُنْ مِنْ أمَّةِ أحمد، ولا تكُنْ مِنْ قومِ صالح، فقال له: شَرْعُ مَنْ قبلَنا شرعٌ لنا، ما لم يَرِدْ ناسخٌ. انتهى.

وللَّه دَرُّ القائل في مَنْ يُعرِض عمَّن يؤذيه:

لو كلُّ كلبٍ عوى ألقمته حجرًا ... لأصبحَ الصَّخْرُ مثقالًا بدينارِ

وقال غيره:

ومن (٢) قابل الكلبَ العقورَ بما عَوَى ... وقاتله عَمْدًا لَمِنْ شِيَمِ الجَهْلِ

لأنَّ مكافاة الكلابِ نقيصَةٌ ... تَعُزُّ على الأحرار مِنْ جِهَةِ العَقْلِ

كل هذا مع قدرته على الانتقام، ولكن كان يعفو عند المقدرة، ويتفضَّل اللَّه عز وجل بحصول الانتقام في الدُّنيا قبل الآخرة مِمَّن ناوأه ممَّن لم يُخْلِصْ في التَّوبة ويظهر النَّدمَ والرُّجوعَ، ويعزِم على عدم العَوْدِ، كما فعل ابن التنسي رحمهما اللَّه تعالى، فإنِّي رأيته حضر عند قبرِ شيخنا، وصار ينتحب بالبكاء ويصرِّح بالتأسُّف على فَقدِهِ، ويقول: ما كنَّا نظنُّ حصول هذا


(١) في (أ): "وظيفة".
(٢) في (أ): "ولو".