للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أبي حنيفة رحمه اللَّه، كان يومًا في المسجد الجامع، فوقعت حيَّةٌ في حجره، فهرب النَّاسُ غيره، وما زاد على أن نَفَضَ الحيَّةَ وهو جالسٌ مكانه.

وكذا رواها شقيقٌ بن إبراهيم البلخي عن أبي حنيفة، وفيها: أنَّه نفضَها وما زال عَن مجلسه، ولا تغيَّر لونه. قال: فعرَفْت أنَّه صاحب يقين.

وبالضِّدِّ مِنْ ذلك: ما شاهدتُه مِنْ بعضِ مَنْ أخذتُ عنه وأنا معه في جماعة، وقع مطرٌ غزيرٌ وفيه بردٌ كبار، فسقط عليه بعضُه، فقام فزِعًا، وعذرته واللَّه في ذلك، فإنَّه كان أمرًا مَهُولًا. رحمهم اللَّه أجمعين.

ومن وُفورِ صبره: أنَّه لمَّا امتُحِنَ في أيَّام القاياتي بإخراج البيبرسيَّة، ثم في أيام السَّفطي بغيرِ ذلك واشتدَّ الأمرُ، كما أسلفناه، كان يُبالِغُ في الحمد ويقول: لو أمرَ السُّلطانُ بإخراجي [مِنْ هذا البلد] (١) مَنْ كان يمنعُه مِنْ ذلك؟ فما هذا إلا مِنْ لُطف اللَّه عز وجل بي، وإن كنت أعلم أنَّني أكونُ في غير هذا البلد أشدَّ تعظيمًا وأكثرَ احترامًا، إلا أن حبَّ المرء وطنه ممَّا جرتِ العادةُ به، لا سيما وفيه شماتة الأعداء وغير ذلك.

وقد أنشد بعضُهم:

تغرَّبْ على اسمِ اللَّه والتَمِسِ الغِنَى ... وسافِر ففي الأسفارِ خَمْسُ فَوائدِ

تَفَرُّجُ نفس والتِمَاسُ معيشةٍ ... وعِلمٌ وآدابٌ ورِفْعَةُ ماجِدِ

فإن قيل في الأسفارِ ذلٌّ وغُرْبَةٌ ... وتشتيتُ شملٍ وارتكابُ شَدَائِدِ

فلَلْمَوْتُ خيرٌ للفتى مِنْ مقامه ... بدارِ هَوانٍ بين واشٍ وحاسِدِ

وأما بذله وسخاؤه

فكان عجبًا يعسر (٢) استقصاؤه:

ومنه ما حكاه لي بعضُ أحبابه ممَّن أثق به أنَّه شكا إليه في وقتٍ مِنَ


(١) ما بين حاصرتين ساقط مِنْ (ب).
(٢) في (ط): "يقصر"، تحريف.