للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لا يعلم مَنْ على شماله مِنَ النَّاس، وأبعدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ المراد بشماله نفسه، وأنَّه مِنْ تسمية الكل باسم الجزء، فإنَّه ينحلُّ إلى أن نفسه لا تعلمُ ما تُنفق نفسه. وقيل: إنَّ معناه التَّصَدُّقَ على الضَّعيف والمكتسِب في صُورة الشِّراء، لترويج سلعته، أو رفع قيمتها، وهذه إن أريد أنها مِنْ صوَر الصَّدقة الخفية، فمسَلَّم. أما كونها مراد الحديث خاصَّةً فلا. انتهى.

ومما اتفق في هذا النوع مما يدل لكرامته: أنَّ بعضَ الفقراء مِنْ طلبة العلم المُتردِّدين للاستفادة (١) منه حضر إليَّ، وذكر حاجةً، واستشارني في بيع بعضِ كُتبه، ظانًّا حُصولَ شيءٍ مِني، فما تيسَّر، وحضرَ على العادة آخرَ النَّهارِ، فلمَّا تمَّ الدَّرسُ وقام شيخنا ليدخُلَ، وقف على بابِ خَلوَتِه وناداه، فدفع له دينارًا.

وحكى لي الشيخ إبراهيم بنُ سابق الغمري إمامُ المنكوتمرية، قال: كنتُ عنده في وقتِ عشائه، فأمرني فجلست بجانبه، وكنت آكُلُ يسيرًا حيث حدَّثَتْنِي نفسي بشيءٍ مِنْ جهة كونه قاضيًا. قال: فما تمَّ ذلك حتَّى قال لي: كُلْ يا إبراهيمُ وأنت طيِّبُ الخاطر.

وطالما كان بعضُ الطَّلبة ونحوهم يقترضُ منه المبلغ الكثير، ويكتبُ له وثيقةً مِنْ تلقاءِ نفسِه بذلك، فإذا تيسَّر له ذلك، ودفعه إليه، أعطاه منه قدرًا كبيرًا، فيقع موقعًا عظيمًا عند المدين.

واتَّفق أن شيخنا ابنَ خضر توفي ولصاحب التَّرجمةِ عليه مبلغٌ سبعين دينارًا، اقترضها منه مِنْ مدَّةٍ طويلةٍ، فرام شراءَ نسخته بفتح الباري مِنْ تركته، ليوقفها على الطلبة لأجل اعتمادها وإتقانها، فالتمس منه الجمالي ناظر الخاص (٢) أن يترُكَها له، ففعل. ولما أحضرَ المبلغَ الذي له، لم يلتَفِتْ لذلك، بل أشارَ بقطعِ خمسةَ عشر دينارًا منه للأولاد، لكونه كان سكَنَ بالحلبيَّة في بيتهم بجامع صاروجا شهرًا، والأجرةُ لا تساوي ذلك،


(١) في (أ): "للاستفتاء".
(٢) في (ط): "الخواص".