فالأول: أبو الحارث شيخ الإسلام الليث بن سعد الإمام المشهور، والحجة في ذلك تأتى برمتها. والثانى: أمير المؤمنين في الحديث، وملك الحفاظ، وفارس الأئمة الأيقاظ: أبو بسطام شعبة بن الحجاج العتكى، والحجة في ذلك: قد ذكرناها عقب تخريجنا للحديث [رقم ١٧٣٣]، فراجعها إن شئت. وقد كان شعبة حسن القول في أبى الزبير، وروى عنه جملة من الأحايث يأتى بعضها [برقم ١٨٦٤]، ثم انقلب عليه رأسًا، وجعل يرميه بالعظائم من الأقوال والأعمال، ثم تنكب عن الرواية عنه جملة وتفصيلًا لما ظهر له من موبقات أبى الزبير، والتحقيق: أن كلام شعبة في أبى الزبير لا يفيد من إسقاط أبى الزبير في شئ إن شاء الله. وقد شرحنا ذلك في غير هذا المكان. وشعبة معذور كما لا يخفى على الناقد. وإليك البرهان الأكبر في إثبات تدليس أبى الزبير: أخرج العقيلى في "الضعفاء" [٤/ ٣١١]، بالإسناد الصحيح المتصل - رجاله كلهم ثقات معروفون - إلى سعيد بن أبى مريم قال: حدِّثنا الليث بن سعد قال: (قدمتُ مكة فجئتُ أبا الزبير فدفع إليَّ كتابين، وانقلبتُ بهما، ثم قلتُ في نفسى: لو عاودته فسألته: أسمع هذا كله من جابر؟! فقال: منه ما سمعتُ، ومنه ما حُدَّثناه عنه، فقلتُ له: أعْلِمْ لى على ما سمعتَ، فأعلم لى على هذا الذي عندى ... ). ومن طريق العقيلي أخرجه أبو محمد بن حزم في "المحلى" [٧/ ٣٦٥]، لكن وقع عنده سقط في سنده، وأقول: هذه القصة عمدة في صحة تدليس أبى الزبير، وقد حاول جماعة من فضلاء المعاصرين أن يصرفوا ما فيها من الدلالات الناهضة على تدليس أبى الزبير، بوجوه متكلفة من ذلك التأويل الذي لا يعجز عنه كل أحد، وكل ذلك عندى تخديش في الرخام. وفى القصة دليل آخر على كون أبى الزبير كان يدلس عن ضعفاء أيضًا، ولو لم يكن يدلس عن ضعيف، لما تردد الليث في سماع حديثه كله عن جابر، بل ولما اكتفى بهذه الأحاديث المعدودة - وقدرها ابن حزم وعنه عبد الحق الإشيلى: بسبعة عشر حديثًا، والصواب أنها فوق الثلاثين حديثًا - التى ذكر له أبو الزبير أنه سمعها من جابر، بل انقلاب الليث إلى أبى الزبير مرة أخرى بعد خروجه من عنده، شاهد قوى على أن الليث كان يعرف التدليس من أبى الزبير، لكنه نسى أن يسأله لما قدم عليه أول مرة. فلما تذكر عاد إليه، وقال له: (أعْلِمْ لى على ما سمعتَ .. ).=