ثم ازدهر بعد ذلك علم الكلام بعد أن بدأت في عهد الخليفة العباسي المأمون ترجمة الكتب الفارسية واليونانية، وأقبل العلماء على هذه الترجمات وتأثروا بها وظهر الاعتزال وقامت دولته، وعاش رؤساء الاعتزال في ردهات القصور وفي كنف الحكام. ثم خبت نارهم التي اكتوى بها أهل السنة فعذب
منهم من عذب. ثم قامت دولتهم مرة أخرى في كنف الصاحب بن عباد.
ومعظم مصنفات هذه الفترة قد اندثرت وضاعت فيما ضاع من التراث الإسلامي الضخم، لما أفلت شمس الخلافة في بغداد، ودهى الأمة الإسلامية ما دهاها من غزو التتار، حيث قذف بالمكتبات في دجلة لتكون جسوراً يُعبر عليها. ولكن من النقول التي وصلتنا في بطون كتبٍ كتبَ الله لها البقاء، علمنا أن الكتابة في هذا الفن أصبح لها منحيان، وأخذت تسلك طريقين لم يكن بينهما عظيم فارق في البداية، ولكن الفرق أخذ يظهر بالتدريج ويبرز شيئاً فشيئاً إلى أن انتهى بينهما الأمر إلى فارق واضح، ولكل طريقة ومنهج خاص وميزات لا تشارك إحداهما الأخرى فيها، وقد يصعب على الناظر في هذا الفن تحديد بداية التباين، ولعل ظهور طريقة الشافعية أو المتكلمين كان على يد أحمد بن عمر بن سريج المتوفى سنة ٣٠٦ هـ، الذي ألّف كتاباً في الرد على أبي داود الظاهري في إبطال القياس. فقد نقل ابن السبكي (١) في طبقاته عن القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب وأبي إسحاق الشيرازي في التعليقة أنهما قالا: (إن ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا في الفقه وغيره، ولم يكن لهم قدمٌ راسخة في الكلام، فطالعوا على الكبر كتب المعتزلة، فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلًا. فذهبوا
إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة. ثم وضحت هذه الطريقة على يد عبد الجبار بن أحمد المعتزلي المتوفى سنة ٤١٥ هـ، حيث وضع كتابه العظيم الذي سماه العمد. ومحمد بن الطيب أبي بكر الباقلاني المالكي الأشعري المتوفى سنة ٤٥٣ هـ، حيث صنف المقنع في أصول الفقه، وأمالي إجماع أهل المدينة، والتقريب الذي قال عنه ابن السبكي: