لقد عاش القاضي سراج الدين الأرموي حياة حافلة بالرحلات، مملوءة بالعمل الشاق الدؤوب في التدريس والسفارة للسلاطين والملوك، ثم استقر به المقام قاضياً ومدرساً في بلاد الروم، ثم ارتقى منصب قاضي القضاة بما أودع الله فيه من المؤهلات العلمية والنفسية فوصل إلى ما وصل إليه من
الجاه، وعاش حميدَ السيرة موفور العرض، سليماً من أذى الحساد، مُحباً للجميع حتى من كان ينكر أحوالهم كالمولوي جلال الدين الرومي، فيعوده في مرضه ويسقيه الدواء ويجلس على وسادته بل ويتقدم أتباعه وتلاميذه ليصلي عليه. فقد ألف القلوب من حوله، فبكته العيون يوم لبى نداء ربه،
وفقدته كراسي القضاء يوم احتاج له المتخاصمون، ورثه طلاب العلم، وخسرته المدارس، ولكن لكل أجلٍ كتاب ولكل أمر نهاية وأمر الله نافذ وقضاؤه ماض ولا حول ولا قوة لمخلوق في صرفه، فذاق كأس الموت التي لثمت فاهه شفاه الأنبياء من قبله، ولكن بعد أن عمر آخرته بما زرعه في دنياه فسيجني ثمار غرسه، ويحصد نتاج أرضه التي أتت أكلها ضعفين تغمده الله برحمته، وأسكن روحه الدرجات العليا في الجنة وجزاه الله عن طلبة العلم والمسلمين خير الجزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون- وذلك عام ٦٨٢ هـ في مدينة قونية.
شيوُخه
بعد تقصي ترجمة القاضي سراج الدين أبي الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي- رحمه الله تعالى- في جميع كتب التراجم، لم أجد أنها ذكرت له إلَّا شيخاً واحداً، وما من شك أنه تتلمذ على عدد من أفاضل العلماء، ولكن التاريخ يخفي كثيراً من الأخبار، فتصبح نسياً منسياً مع أن كتب التراجم نقلت لنا: أن القاضي محمود بن أبي بكر الأرموي- رحمه الله- قد بدأ دراسته في بلده التي ولد فيها أرمية، ولكن لم تذكر لنا على يد من أخذ علومه في مقتبل العمر. ولم تذكر لنا إلَّا اسم شيخه في الموصل بعد هجر بلاده لعله أمام الزحف التتاري. وكم نحن في شوق لمعرفة المزيد عمن أخذ عنهم، لأن