المحدِّثَ لا يفتقرُ إليه؛ لأنّ ذلك من وظيفة الفقيه لأنه يستنبط الأحكام من الأحاديث فيحتاج إلى معرفةِ التَّواتُرِ والآحاد والناسخ والمنسوخ، فأما المحدِّثُ فوظيفته أن يَنقُلَ ويَروِيَ ما سَمِعه من الأحاديث كما سَمِعه، فإنْ تصدى لما وراءه فزيادةً في الفَضْل. وأما مبدأُ جَمْع الحديث وتأليفه وانتشاره، فإنه لمّا كان من أصُولِ الفروض وَجَب الاعتناء به والاهتمام بضَبْطِه وحفظه، ولذلك يسر الله تعالى للعلماءِ الثّقاتِ الذين حَفِظوا قوانينه وأحاطوا فيه فتناقلوه كابرًا عن كابر، وأوْصَلَه كما سَمِعَه أولَ إلى آخِرَ، وحبَّبه اللهُ إِليهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته فما زال هذا العلم من عهدِ الرَّسُول ﵇، أشرفَ العُلوم وأجلها لدى الصَّحابة والتابعين وتابعي التابعين خَلَفًا بعدَ سَلَف لا يَشرُف بينهم أحدٌ بعد حفظ كتاب الله تعالى إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يَعظُم في النفوس إلّا بحسب ما يسمعُ من الحديث عنه، فتوفَّرت الرَّغَباتُ فيه، وانعطفت الهِمَمُ على تعلمه، حتى لقد كان أحدهم يرحَلُ المراحل ويقطعُ الفيافي والمَفاوِز ويَجُوبُ البلادَ شرقًا وغربًا في طلب حديث واحد ليسمعه من راويه، فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديثِ لذاته، ومنهم من يَقرِنُ بتلك الرَّغبة سماعه من ذلك الرّاوي بعَيْنِه إِمّا لثقته في نفسه وإما لعلو إسنادِه، فانبعثت العزائمُ إلى تحصيله، وكان اعتمادهم أولا على الحفظ والضّبطِ في القلوب، غير ملتفتينَ إلى ما يكتبونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله تعالى. فلما انتشر الإسلام واتسعت البلاد وتفرقت الصَّحابة في الأقطار ومات معظَمُهم وقَلَّ الضَّبط احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، ولعَمْري إنّها الأصل، فإن الخاطر يغفل والقلم يَحفَظُ، فانتهى الأمرُ إلى زمن جماعة من الأئمة مثل: عبد الملك بن جريج ومالك بن أنس وغيرهما، فدوَّنوا الحديث حتى قيل: إن أول كتابٍ صُنف في