ومنهم من قصد ذِكرَ الغريب دون متن الحديث واستخرج الكلمات الغريبة ودونها ورَتَّبها وشَرَحها، كما فعله أبو عُبيد أحمد بن محمد الهَرَوِيُّ وغيره من العلماء.
ومنهم من قصد إلى استخراج أحاديث تتضمن ترغيبًا وترهيبًا وأحاديث تتضمن أحكاما شرعيّةً غير جامعة فدوّنها وأخرج متونها وحدها، كما فَعَله أبو محمد الحُسَين بن مسعودٍ البَغَوِيُّ في "المصابيح"، وغير هؤلاء.
ولمّا كان أولئك الأعلام هم السابقون فيه لم يَأْتِ صَنِيعُهم على أكمل الأوضاع، فإنّ غَرضَهم كان أوّلًا حِفظ الحديث مطلقًا وإثباته ودَفْعَ الكذب عنه والنَّظرَ في طُرُقه وحفظ رجاله وتزكيتهم واعتبار أحوالهم والتفتيش عن دَخائل أمورهم حتى قَدَحوا وجَرَحوا وعَدَّلوا وأخذوا وتركوا، هذا بعد الاحتياط والضَّبْطِ والتدبر، فكان هذا مَقصِدَهم الأكبر وغَرضَهم الأوفى، ولم يتّسع الزَّمانُ لهم والعُمرُ لأكثر من هذا الغرض الأعمّ والمُهِمِّ الأعظم، ولا رَأَوْا في أديانهم (١) أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع، بل ولا يجوز لهم ذلك، فإنّ الواجب أوّلًا إثبات الذات ثم ترتيب الصفات، والأصلُ إنّما هو عَيْنُ الحديث، ثم ترتيبه وتحسينُ وَضْعِه، ففَعلوا ما هو الغَرضُ المتعين واخْتَر متهم المنايا قبل الفراغ والتخلي لما فعله التابعون لهم والمُقتدون بهم، فتعبوا الراحة من بعدهم.
ثم جاء الخَلَفُ الصّالح فأحَبُّوا أن يُظهروا تلك الفضيلة ويُشيعوا تلك العلوم التي أفنوا أعمارهم في جَمْعِها: إما بإبداع ترتيب أو بزيادة تهذيب أو اختصار وتقريب أو استنباط حكم وشَرح غريب، فمن هؤلاء المُتأخرين