دخلها ﵀ في أواخر القرن الخامس، كلُّه شوقٌ للقاء مَن بها من أهل العلم، فالتقى مَن كتب اللهُ له لُقياه من الأعلام، فسمع منهم، وحفظ عنهم، فأثبت كلَّ مَن علَّق عنه شيئاً من الحديث وإن لم يكن عارفاً بقوانين الرواية والتحديث، وسَمَّى كلَّ مَن استفاد منه فائدة فقهيَّة أو أدبيَّة أو زهدية، أو استنشده فأنشده شيئاً من شعره وبنات فكره، أو مما أنشده مَن شاهده من أديب بارع أو راوية جامع، فروى كتباً وأجزاء، ومرفوعات وموقوفات، وأخبار وحكايات وإنشادات، وفوائد ومنتقيات، من عقائد وآداب وحِكَم وزهديات، واستجاز مَن استحق أن يُستجاز فأجازوه، وسألهم فأفادوه، فجمع كلَّ ذلك، وأدرجه كتابه الفذَّ الموسوم بـ:
المشيخة البغدادية
ذكر فيه أسماء شيوخه وأسماء آبائهم ونسبتهم وأنسابهم، وذكر نماذج مما استفاده من علومهم ومرويَّاتهم، بسنده المتصل إليهم بالسماع والقراءة والإخبار، فجمع علماً جمًّا في مشيخته هذه، وزادها حُسناً إلى حسن ذكرُه للمحالِّ والمواضع والأماكن التي سمع فيها من شيوخه، فوصف بغداد وصفَ مَن وَقَفَ على شوارعها وأسواقها، ومدارسها ومساجدها، ودورها ودروبها وأنهارها، في غربيِّها وشرقيِّها، فصار كتابُه موسوعةً علمية في علوم شتى:
فهو موسوعةٌ في معرفة حديث المصطفى ﷺ، وأقوال صحابته الكرام، ومَن بعدهم من الأئمَّة الأعلام إلى عصر مؤلِّفه رحمة الله عليهم أجمعين.
وموسوعةٌ في معرفة الرجال، خاصَّة شيوخ المصنِّف، وهم من الطبقة التي جاءت بعد الخطيب البغدادي أو كانوا في عصره، لكن لم يُقدَّر لهم أن يُذكَروا في تاريخ بغداد للخطيب، فذكرهم السِّلفي في هذا التاريخ، فأحيا ذكرَهم، وحفظ أنسابهم، وبيَّن علومهم ومعارفهم، وهذا وفاءٌ منه لهؤلاء الأعلام الذين استفاد منهم وأفادوه.