[الاتهامات والامتحانات التي واجهها شيخ الإسلام]
نقول قاعدة: كل صاحب نعمة محسود، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد حسده من كان في عصره من أقرانه من العلماء وطلاب العلم، وكان من أكبرهم ابن مخلوف المالكي القاضي، اتهمه رحمه الله بأنه خالف ما كان عليه سلف الأمة، وذكر اتهامات له في العقيدة وهي باطلة: منها: أن شيخ الإسلام يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وإن الله يتكلم بحرف وصوت، ولعل هذا الكلام يومئ إلى أن هذا الإمام المالكي كان على مذهب الأشاعرة نتيجة هذا التهمة لما وشى به عند الحاكم، وكان ذلك في عشرين رمضان سنة (٧٠٥هـ) نتيجة حبس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في برج من الأبراج هناك أياماً، ثم نقل منه ليلة العيد إلى حبس معروف بالجب عندهم، رافقه أخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن.
وممن اتهمه كذلك الصوفية، وكان شيخ الإسلام من أشد الناس إنكاراً على الصوفية، وتكلم عليهم كلاماً قاسياً قوياً، وسبحان الله! عجباً من هؤلاء الصوفية ما أقل عقولهم، وما أقل فقههم، ابن عربي وابن الفارض وغيرهم من الذين يتكلمون بكلام إلحادي وكفري، ومع ذلك يبجلونهم هؤلاء القوم، يقول أحدهم وهو ينفض جبته: ما في الجبة إلا الله، ويذكرون أشعاراً شركية وإلحادية ومع ذلك يعتبرونهم من كبار الأئمة، ابن الفارض قُتل بفتوى علماء زمانه لإلحاده، ومع ذلك يعتبر شهيد الصوفية، وأن الناس وشوا به ولا يعرفون كلامه.
لما تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في الصوفية وعقد له مجلس قضاء الشافعية، وادعي عليه بأشياء رحمه الله، ومع ذلك لم يثبت منها شيء، ودحض حجتهم وباطلهم.
ومما حدث له كذلك: الإفتاء في مسألة الطلاق، وكان رحمه الله تعالى يفتي بأن الطلاق الثلاث يعتبر طلاقاً واحداً وقد رجع، وهذه المسألة خلافية ولن أتعرض لها بشيء، ويفتي بها سماحة شيخنا العلامة حفظه الله وأمد في عمره، نتيجة لما أخبر الناس بهذا الخبر امتحن رحمه الله من قبل علماء زمانه وقضاتهم، وكان نتيجتها أنه رحمه الله تعالى مُنع من الإفتاء بذلك، ولكنه سئل مرة أخرى فافتى بها وكانت النتيجة أن حبس في القلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، وأخرج يوم الإثنين في عاشوراء سنة (٧٢١هـ) .
ومنها كذلك: افترى عليه بعض المفترين ومنهم الطوفي، وكان على مذهب الحنابلة ولكنه أشعري، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد رد على الأشاعرة وأبطل ما كانوا عليه من المذهب في أغلب كتبه رحمه الله تعالى، وتكلم على الإمام الغزالي وبأنه من أئمة الأشاعرة ومن منظريهم، وله كتب في ذلك في الرد عليهم.
وتكلموا عليه كذلك في مسألة النزول، وكذلك في غيرها من المسائل، وكانت النتيجة أن عقد له مجلس ونوقش فيه ورد عليهم.
من الاتهامات العجيبة التي اتهمه بها ابن بطوطة، قد نقول: يستحق أن نقول له: قبحه الله إن ثبتت عنه هذه الكلمة، ذكر ابن بطوطة صاحب الرحلة المشهورة أنه دخل دمشق، وذكر أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إنه من كبار فقهاء الحنابلة، ورآه يتكلم في فنون عديدة، وتكلم قال: وحضرت له يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، قال: فكان من جملة كلامه -أي: شيخ الإسلام- أن قال: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل شيخ الإسلام درجتين، وهذا كلام باطل وليس بصحيح، وأصبح الناس يتناقلون هذا الكلام، ورد عليه جمع من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، ومنهم: ابن عبد الهادي رحمه الله وهو من كبار تلامذته، ومنهم: أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب في طبقات الحنابلة وغيرهم، وذكروا أن الوقت الذي زار فيه ابن بطوطة دمشق كان شيخ الإسلام ابن تيمية في القلعة مسجوناً، فكيف يخرج هنا وهناك، ذاك أمر لا يقر به إلا غلاة الصوفية.
ولكننا نقول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يقول مثل هذا الكلام وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة رحمه الله تعالى، وحاشاه أن يتكلم، ولكن ليس إلا الحسد والكذب، وليس غريباً أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، أو من المبتدعة في مقالاتهم.
ولعلي أذكركم بقصة من اللطائف للصوفية كانت لهم، ذكرها الشعراني في طبقاته، وكان من العجائب التي ذكر: أن أحد أئمة الصوفية، وكان يعتبر ولياً من أولياء الله، ويعظمونه ويجلونه، دخل المسجد يوم الجمعة فصعد المنبر، ثم قام خطيباً في الناس، وقال: أشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام، فقال الناس وهم حضور: كفر الشيخ، كيف يقول هذا الكلام، فنزل عليهم بسيفه وخرج أغلب من في المسجد مخافة منه، قالوا: فجلس على المنبر والناس لم يستطيعوا الدخول لما رأوا من كلامه، ومكث إلى قريب العصر، يقول: فجاء رجل من قريةٍ من القرى إلى هذه البلدة التي فيها الشيخ القبيح، فقالوا: أما علمت ما قال الإمام والشيخ والولي؟ قال: ماذا قال؟ فذكروا له، فقال: قبحكم الله، والله لقد كان بنا خطيباً صلى بنا الجمعة وخطب بنا أربع خطب، وهو في قرية وقال كذلك، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية لن يقول مثل هذا الكلام، وهو أعظم من نافح عن عقيدة السلف الصالح، وأعظم من قرر منهج أهل السنة والجماعة وحاشاه أن يتكلم بهذا، ولكن هذا سببه الحسد والكذب، وليس غريباً أن يوجد هذا من الأقران وغيرهم، وخاصة إذا كانوا من المبتدعة.
وقد ذكروا أنه رحمه الله سجن سجوناً عديدة، منها: أنه سجن في قلعةٍ في الشام في رجب سنة (٧٢٠هـ) إلى عاشوراء سنة (٧٢١هـ) ، وسجن في القلعة في القاهرة، كذلك سجن في الجب، أُدخل رحمه الله سنة (٦٩٨هـ) وذكر بعضهم أنه أخرج بعدها بسنوات.
ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى كلاماً عظيماً جداً في سجن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنه توفي رحمه الله تعالى في السجن، ويقال: لما توفي كانت وفاته يوماً مشهوداً، ضاقت بجنازته الطرق، وسارع الناس من كل فج عميق يتقربون إلى الله بحضور جنازته رحمه الله تعالى، وكلهم يسارع إلى حمل جنازته.
ذكروا من صفاتها: أنه أغلقت الحوانيت والمحلات، حضرها عدد من الرجال والنساء قدَّر بعضهم بأنها أكثر من مائتي ألف شخص.
وذكروا -وإن كان هذا غلواً ولا نرتضي بالغلو- أن طاقيته رحمه الله بيعت بخمسمائة درهم، ولكنا نقول: إن هذا من التبرك غير المشروع، وقاعدتنا أنه لا يجوز التبرك بأحدٍ كائناً من كان إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم بذاته، أما ما عداه فسوف يأتي إن شاء الله بيان شيء من التبرك.
ذُكر في جنازته الضجيج والبكاء والتضرع إلى الله، والناس أخذوا يزورون قبره رحمه الله، ورثاه جمع من الناس، صلي عليه مراراً، صلى عليه الشيخ محمد بن تمام مع الناس في القلعة، ثم صُلي عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، ثم صلى عليه أخوه زين الدين في سوق الخيل مرة ثالثة، ثم دفن بعد ذلك، توفي في الصباح ولم يدفن إلا قريب العصر رحمه الله تعالى.
ذكر بعضهم أنه صلي عليه صلاة الغائب في كثير من البلدان المجاورة، حتى ذكروا -وإن كان هذا فيه مبالغة- أنه صلي عليه في الصين، وفي اليمن وفي غيرها من البقاع.