للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تقديم أهل البدع العقل على النقل]

سبب فساد العالم لا شك أنه تقديم الرأي على الوحي، وكذلك الهوى على النقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب أحد إلا لم يستفد من نور الكتاب والسنة أبداً، ولهذا روى لنا ابن عبد البر بسنده عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه رضي الله عنه، أنه كان يقول وهو الإمام أحمد:

دين النبي محمد آثار نعم المطية للفتى الأخبار

ولربما جهل الفتى طرق الهدى والشمس طالعة لها أنوار

وكذلك ما أحسن ما قال بعضهم:

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه

إن كثيراً ممن كان عندهم انحراف في مسائل العقيدة دائماً ينسبون معتقدهم إلى الإمام أحمد، وهنيئاً لهذا الرجل الصالح ورضي الله عنه لموقفه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان معتقد أهل السنة، ولموقفه في مسألة القول بخلق القرآن وصموده، وما حصل له رضي الله عنه من الجلد والسجن وغير ذلك، ولكن الله أبقى ذكره وجعله خالداً، وعند أهل السنة والجماعة لا ينسى الإمام أحمد، بل كل إنسان يتشرف بأن كان على عقيدة الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه، ولعل السبب في ذلك: أن الإمام أحمد لم يكن رأيه من عند نفسه، وإنما سار على الآثار التي أتته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عن الصحابة الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم.

ولهذا قال رحمه الله: هذا مذهب أئمة أهل العلم، وأصحاب الأثر المعروفين بالسنة المقتدى بهم، فيها أدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائغ عما كان عليه سلف الأمة، وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومذهب بقي بن مخلد، والحميدي، وسعيد بن منصور وغيرهم من كبار سلف الأمة رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

عندنا مسألة وهي: كيف يمكن أن نجمع بين العقل والنقل، وهل يمكن أن يتعارض النقل والعقل؟ نقول قاعدة: لا يمكن التعارض أبداً بين العقل والنقل، والسبب في ذلك: أن الذي جاء بالنقل والشرع هو الذي خلق العقل، فما جاء إلا بشيء يصدق ما كان عليه العقل، ولا يمكن أن يُوجد شيء لا تقبله العقول، ولهذا قلنا: إن الشريعة تأتي بما تحار به العقول، لا بما تستحيله العقول، ولئن وجد شيء من التعارض فإننا نقول: لا يخلو من أحد أمرين: الأمر الأول: أن يكون العقل غير صريح، بمعنى: أن العقل فيه شبه وشكوك، وفيه انحرافات وضلال، فعند ذلك لا مانع أن يعارض النقل، فالعقل هو الذي فيه الخلل، والشرع لم يكن فيه شيء.

الأمر الثاني: أن يكون النقل غير صحيح، ولا شك أن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة يمكن أن تعارض العقل، وأما إذا كان العقل صريحاً والنقل صحيحاً فلا تعارض بينهما ولله الحمد، ولئن ضلت المعتزلة في هذا الباب، وانحرفت عنه انحرافاً قوياً، حيث قالت: إن العقل هو الحاكم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا القول باطل، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى برد مطول في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، وبين انحرافهم، وأنهم لم يصلوا إلى الحق، ولن يصلوا إليه بقولهم حيث حكموا العقل، فلا ندري أنأخذ بعقل المعتزلة، أم بعقل الجهمية، أم بعقل الأشاعرة، أم بعقل الماتريدية أو غيرهم؟ وإنما نقول: نأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي الحاكمة على ذلك والموضحة له.

<<  <  ج: ص:  >  >>