[الأولوية في طلب العلم لحفظ القرآن]
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قبل أن أتكلم عن أنواع التوسل البدعي لعلي أن أنبه إلى أدب لطيف من آداب الطلب، وقد يكون غريباً على عدد من الأحبة، ولكنه في كتب السلف لا يعتبر غريباً.
نبهنا سابقاً إلى أنه ينبغي لطالب العلم أن يهتم بتعلم العلوم ويبدأ بالأهم فالأهم، ولو سُئل الجميع: ما أهم شيء يطلبه طالب العلم؟ ستجدنا أول ما نقول: أن يهتم بالعقيدة، ثم بالحديث ثم ثم وهكذا، ولكننا نجد جمعاً من أئمة السلف رحمهم الله تعالى ذكروا أن أهم ما يبدأ به طالب العلم حفظ القرآن، فقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة) يقول الإمام الحافظ ابن حجر: قوله: (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة) فيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن: ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان أو مندوباً.
ولقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أم بالحديث؟ فقال له: بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ -أي: أعلمه كل القرآن؟ - قال: إلا أن يعسر عليه.
إذا لم يستطع حفظ القرآن فلا مانع أن تجمع بين القرآن وبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن مفلح رحمه الله في آدابه الشرعية: وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا، من عهد الإمام أحمد إلى زمان ابن مفلح وهم يجعلون القرآن هو الأصل في قضية التعلم.
يقول محمد بن الفضل: سمعت جدي يقول: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة لطلب العلم، فقال: اقرأ القرآن أولاً حتى آذن لك، أي: حتى آذن لك أن تطلب العلم، قال: فاستظهرت القرآن، أي: حفظته عن ظهر قلب، فقال لي: امكث حتى تصلي به الختمة، أي: حتى تختم به في صلاة التراويح، يقول: ففعلت، فلما عيدنا -انتهينا يوم العيد- أذن لي بالخروج إلى مرو لطلب الحديث، مما يدل على أن البداية هي بكتاب الله تعالى.
وكذلك نقل عن أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في جامع بيان العلم وفضله، قال: طلب العلم درجات، ومنازل ورتب لا ينبغي تعديها، أي: كأنه برنامج معين ينطلق به طالب العلم من هنا ثم يترقى به، ثم قال: ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، أي: من لم يأخذ بالطرق التي بينها له سلف الأمة فإنه يأتي بمنهج لم يُعرف، وقال بعدها: من تعدى سبيلهم عمداً ضل، أي: من قال: أنا لا أحتج بكلامهم ولا أقبل منهم ضل ولم يعرف طريق الطلب أصلاً، ومن تعداها مجتهداً زل، بعض الناس يقول: أنا لا أرى هذا الرأي ولا غيره، قال: زل فلم يكن على الجادة التي كان عليها هؤلاء السلف، ثم قال: فأول العلم حفظ كتاب الله تعالى وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب على طالب العلم أن يطلبه.
ثم قال رحمه الله: ولا أقول: إن حفظه واجب فرض، بمعنى: أنه يأثم من ترك حفظ القرآن، ولكن أقول: إن ذلك واجب ولازم على من أحب أن يكون عالماً أن يحفظ كتاب الله تعالى، ولكنه ليس من الواجبات والفرائض التي يأثم الإنسان بتركها، ثم قال: فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه باللسان العربي، كان ذلك عوناً له كبيراً على مراده من طلب العلم، وعوناً له على ضبط سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إلى الآفاق قائلاً لهم أن يتعلموا السنة والفرائض واللحن -أي: النحو- كما يتعلم القرآن.
قال الإمام النووي في مقدمة كتابه المجموع: وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ في الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، ثم قال: وأول ما يبدأ به حفظ القرآن العزيز، فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن، وإذا حفظ قالوا: فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالاً يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعرض القرآن للنسيان، ثم ذكر بعد ذلك ما ينبغي لطالب العلم أن يحرص عليه.
وذكر كذلك الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر مقدمة عن العلم وأهميته، ثم ذكر فيها، قال: فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، قال: فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ومتعلقاته وغيره ثم لا يحفظ القرآن.
ونختم بكلام للخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، قال: وينبغي لطالب العلم أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل؛ إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم، أي: أنه أهم ما يبدأ به طالب العلم.
ولست بصدد كيفية قراءة وحفظ القرآن وآدابه ومتعلقاته، فهذا له وقت آخر، لكني أحببت أن أنبه على الأدب الذي هو أنه ينبغي لكل شخص منا أن يكون حريصاً على حفظ القرآن، وأن يجعله هو الأصل والقاعدة التي ينطلق منها.
وقد ذُكر أن بعض مشايخنا وليسوا من المعاصرين ولكنهم قد توفوا رحمهم الله، وأظن أن من أقربهم هو مفتي هذه الديار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، فإنه كان إذا جاء الطالب يريد أن يطلب العلم لديه سأله: أحفظت القرآن أم لا؟ فإن كان حافظاً أجلسه مع الطلاب، وإن لم يكن حافظاً قال: انطلق فاحفظ القرآن ثم تعال فاجلس مع إخوانك من طلاب العلم، وهذا أدب كان يحرص عليه السلف، وينبغي أن يكون نصب أعيننا، وأن نجاهد النفس في تحصيل حفظ كتاب الله تعالى.