[أسباب استحباب تأليف الكتب المختصرة]
وتأليف العلماء رحمهم الله تعالى للمختصرات يكون لأمور عدة: أولاً: ليسهل على طالب العلم حفظها؛ وذلك نظراً لأن المختصرات تعتبر كالقاعدة لطالب العلم، ويجعلونها هي المنطلق لبداية الطلب.
ولذلك قال العلماء رحمهم الله تعالى: من حفظ المتون حاز الفنون، دل على أن أول ما يُقعِّد به طالب العلم هو حفظ المتون، وإني أقترح على المسئولين في هذا المسجد أن يُجعل مسابقة في حفظ بعض المتون، كحفظ الحائية، وكحفظ النخبة، وكحفظ الثلاثة الأصول والأربعين النووية، ولامية شيخ الإسلام، ثم بعد ذلك يجعل هناك ثمة حوافز للتشجيع؛ نظراً لغربة قضية حفظ المتون في عصرنا، ونحن نعيش في عصر يُعلَّم الناس أن أهم شيء هو الفهم، دون أن يكون للطالب تقعيد وتأصيل في علمه، وإن كنا نقول: أصل العلوم كلها وقاعدتها هو حفظ كتاب الله تعالى، ثم بعد ذلك حفظ سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما تيسر من المتون العلمية التي تعتبر تأصيلاً لطالب العلم.
ثانياً: تأليف المختصرات لتصبح مرجعاً لطالب العلم على مر العصور كلها، فمهما بلغ العالم رتبة عالية فلا يستغني عن هذه المتون التي حفظها، وسبحان الله! كم نسمع من شيخنا العلامة أمد الله في عمره، يستشهد بـ النخبة، ويستشهد بـ البلوغ، ويستشهد بـ أليفة ابن مالك، ويستشهد بـ الواسطية، ويستشهد بـ كتاب التوحيد وغيره؛ لأنها قواعد، ويصبح الإنسان إذا حفظ هذه المتون كلما وجد علماً من العلوم أو قرأ في فن من الفنون، أصبح عنده قاعدة يمر ما جاءه من العلوم الجديدة على هذه المتون، فيزداد نوراً ومعرفة وإدراكاً وتصوراً، أما إذا كان طالب العلم كما هو حاصل يقرأ طالب العلم في الكتب المطولة، ثم يصبح جمَّاعة لأقوال لا يميز بين الراجح من المرجوح، ولا يميز بين الصواب من الخطأ، ولا يستطيع فرز شيء من هذه العلوم، لا يستطيع أن يجعله أصلاً، ولا يعتبر مكملاً للعلم، يصبح كشكولاً للعلم دون أن يكون علمه رصيناً قوياً، فرحم الله العلماء الذين ألفوا هذه المتون لتصبح تأسيساً لطالب العلم.
ونجد الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى ألف كتبه في الفقه: العمدة، ثم انطلق بعد ذلك إلى المقنع ثم إلى الكافي، ثم إلى المغني، بالتدريج، جعل العمدة قاعدة لطالب العلم لحفظه، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الروايتين والثلاث، ثم ينتقل إلى الموسوعة الضخمة وهو كتاب المغني، الذي قال فيه العز بن عبد السلام: من لم يكن عنده أو لم يقرأ كتاب المغني والمحلى لـ ابن حزم فلا يحق له أن يفتي في مسائل العلم الشرعي، هذا فيما يتعلق بقضية المتون والمختصرات.
نحن في عصر نؤسس بالمختصرات، لكن كان سلفنا رحمهم الله تعالى لا يحفظون المختصرات فقط، بل يحفظون المطولات، وأظن منذ أكثر من سبع عشرة سنة كنا في حلقة شيخنا عبد الله بن حميد رحمه الله وغفر له وكان يقول: إن ابن مفلح رحمه الله، ألف كتابه الفروع، وكتاب الفروع خمسة مجلدات، ولو نشر بالطباعة المتوسعة يوصل إلى عشرة مجلدات -قالوا: إنه لما ألفه ذكر أنه جرده من كثير من الأدلة ومسائل الخلاف المطولة، قال: ليسهل على طالب العلم حفظه.
ونجد الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى -ولعل الإمام ابن كثير استفاد من مدارس الحنابلة- حين تقرأ في البداية والنهاية وتقرأ في تفسيره رحمه الله تعالى، لا تجد حدثاً من الأحداث، بل لا تجد آية من الآيات فسرها إلا وروى لنا فيها أحاديث عن المسند، مما يدل على حفظه لكتاب المسند رحمه الله تعالى، مع أنه اشتمل على أربعين ألف حديث.
وإنا لنتأمل ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مقدمة أعلام الموقعين، أن الإمام أحمد سئل: أيفتي طالب العلم إذا حفظ مائة ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ مائتي ألف حديث؟ قال: لا، قال: أيفتي إذا حفظ ثلاثمائة ألف حديث؟ قال: إني لأرجو أن يفتي هنا.
ولسنا بذلك بل تضعف الهمم في قضية الطلب، ولكن هذا من باب شحذ الهمم لحفظ ما استطاع الإنسان من المتون العلمية وإن كنا نقول: أولها: كتاب الله.
وثانيها: سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: المختصرات التي ألفها العلماء لطلاب العلم.