مما يتميز به منهج أهل السنة: أنه موافق للعقل الصريح، فإن العقل متى خلا من الشبهات والشكوك سبحان الله! يقبل هذا الدين قبولاً كاملاً.
ولذلك سيأتينا أن مما تتميز به عقيدة الإسلام أنها عقيدة فطرية، ولعلي ألطف بمثال بسيط في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقصة واقعية: قدم غماد إلى مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُتهم بأنه مجنون قريش، ويوصم بالنقص وبالسحر وبالكهانة وبغيرها، ولما قدم من نجد إلى مكة وقد كان سيداً مطاعاً فخشيت قريش أن يسلم هذا الرجل، فقالوا: الحقوا به، وقولوا له: إن لدينا مجنوناً، فرق بين النساء والأزواج، وكذلك بين الابن وأبيه وغيرهم، ولا حاجة للجلوس معه، فقد مس في عقله، يقول غماد: وكنت أعالج من الريح أي: من الجنون في الجاهلية.
ولما دخلت إلى مكة أديت العمرة، ثم مكثت بها أياماً ما كان في ذهني أبداً أن أذهب إلى هذا الرجل، ولو قيل لنا: هناك ثمة مجنون لم يكن لأحد منا أن يذهب ليسلم عليه، وليسأل عن أحواله وأخباره، فما تفيدنا شيئاً فعقله لا يستفاد منه، يقول: ولكني بعد مدة قلت في نفسي: إني أعالج المجانين، فما يضرني أن أذهب إلى مجنون قريش ثم أعالجه إن شُفي على يدي كانت لي منقبة عند قريش، وإن لم يشف فليس بأول مجنون يمر علي أصلاً.
ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم جلس إليه، قال: اسمعني من كلامك، ونحن نعلم أن من كان مجنوناً يعرف بحركته أو بكلامه، فذكرت كتب السير أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: بل أنت أسمعني من كلامك، وتنزلاً مع محمد صلى الله عليه وسلم أخذ يسمع النبي قصائد وأشعاراً للعرب، ولما انتهى قال: أسمعني أنت، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بخطبة الحاجة، ثم بعد ذلك أخذ يتلو عليه القرآن، ويتلو عليه آيات نزلت على قلبه كالصواعق، ويريد الله أن يحيي قلبه بها، وينتهي النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن وما كان منه إلا أن قال: أمدد يدك أبايعك، لم يحتاج إلى معجزات، ولا إلى خوارق للعادات، ونطق: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
سمعت قريش بالخبر وقالت له: صبأت، انحرفت، قال: أنتم الصابئون، بين أظهركم رسول الله ولا تقبلون منه، بل أنتم الذين على الانحراف، دلنا على أن هذا المنهج يوافق العقل ويوافق الفطرة، وهو منهج سلف الأمة لم يخرج عن الكتاب والسنة، ولم يخرج عن الفطر السليمة، والعقول الصريحة.
ولذلك يعتبر العقل الصريح شاهد لمنهج سلف الأمة ولا يعارضه أبداً.