قاعدة: يجب أن نعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى كلهم أثريون سلفيون، والمقصود بالأثري السلفي أنه متى ثبت له النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم طرح مقالته كلها وتركها، سواء كان في مسائل الفروع -أي: مسائل الشريعة أو الأحكام- أو كانت في مسائل الاعتقاد، حتى لا يأتينا أحد فيقول: إن قول فلان وفلان وفلان كان مثل قول المبتدعة، ونذكر الأدلة على ذلك: أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان ممن يقول: إن الإيمان هو مجرد الاعتقاد فقط، ولا يرى الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روي له حديث:(أي الإسلام أفضل) الحديث، قيل له: ألا تراه يقول: بأي الإسلام أفضل، والأحناف عندهم خطأ في مسألة الإيمان، فهم لا يرون الإيمان يزيد وينقص، ولهذا يسميهم العلماء: مرجئة الفقهاء، فقيل له: إنه يقول: (أي الإسلام أفضل؟) ثم أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن قضية الإيمان فقال: (الجهاد في سبيل الله والهجرة) والجهاد والهجرة أليست عملاً؟ وأبو حنيفة لا يرى الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فقال له بعض أصحابه: ألا تجيبه، ألا ترد على هذا القول؟ هو يروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ألا تجيبه؟ فقال أبو حنيفة: بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ما كان لي أن أرد عليه بعد أن جاءني بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الواجب على كل مسلم أن يأخذ بظاهر قول الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}[الأحزاب:٣٦] .
قال البخاري: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فأجابه الشافعي رحمه الله تعالى وقال فيها: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث كذا وأورد له الحديث، فقال له هذا الرجل: ما تقول أنت يا إمام؟ أي: ما رأيك أنت؟ فغضب الشافعي أشد الغضب، وقال: سبحان الله! أتراني خرجت من كنيسة، أتراني في وسطي زناراً، حتى أقول قال رسول الله ولا أقول به؟! كأنه منكر عليه أن يسأله عن مقالته، وهذا يدلنا على أمرٍ يجب أن نعلمه، وهو أن الواجب علينا جميعاً ألا نتعلق بالأشخاص أبداً كائناً من كان، إلا بما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن القوم الذين يتعلقون بالأشخاص يصل بهم الأمر إلى أن يزلّوا إذا زل الأئمة، ويصبوا إذا أصابوا، لكن من تعلق بالمنهج وتعلق بالكتاب والسنة فلا يضل ولا يزل أبداً، وهذه من نعمة الله تعالى أننا لا نتعلق بالأشخاص.
أقول للأحبة وهي ظاهرة على ضوء التتبع: تبين لنا في واقعنا الذي نعيشه أن الناس يتعلقون بالأشخاص في كثير من أمورهم، في مسائل دعوتهم، وفي مسائل إفتائهم، وفي مسائل عرضهم للحق وغيره، وهذا من الخطأ والانحراف، ولعل هذا قد حذرنا منه الله تعالى في كتابه فقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[آل عمران:١٤٤] وكأن الله يبين لنا هنا أن الواجب علينا ألا ننظر إلى ذات محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نأخذ بمنهجه ((أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ)) وكم من الناس كأنهم يتعلقون بالأفراد، ويظنون أنهم إذا وجدوا وجد الحق، وإذا ذهبوا ذهب الحق، وإذا ماتوا مات الحق، وإذا حيوا حيا الحق، هذا من الخطأ والجهل، والله قد جعل لنا منهجاً ودستوراً وهو الكتاب والسنة، وهو المنهج الذي يجب أن نأخذ به، وهو المنهج الذي يجب أن يرضى الناس به دون أن يربطوا بأفراد وبأشخاص معينين.