[قبول الحق والعمل بالعلم]
أنبه للأحبة تنبيهاً لطيفاً في أدب الطلب، ولعل هذا يكون هو آخر أدب: أولاً: قضية إبداء الملحوظات: يجب أن تكون صدورنا قابلة للحق، ويصبح ديدن المسلم دائماً الرجوع إليه، ولا تأخذ المسلم العزة أنه قال قولاً لا يمكن الرجوع عنه، أبداً، بل يرجع الإنسان؛ لأن المقصود هو الوصول إلى الحق، وليس المقصود أن يكون ما قاله الإنسان لابد أن يكون حقاً، ليس شرطاً.
ولهذا قالوا: إن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال، وإذا وطن الإنسان نفسه على هذا الأمر كان ذلك خيراً له في الدنيا والآخرة، وسبحان الله! من أعظم ما وجدت أي: على ضوء معيشتي مع مشايخنا سماحة شيخنا العلامة، أن شخصيته فريدة، ومتميز بصفات من أندر ما تجدونها في الدنيا، ولعل من الأمثلة عليها قضية الرجوع، وأذكر من اللطائف أنه منذ أكثر من عشر سنوات أفتى سماحة شيخنا بفتوى، وجاء أحد الطلاب يسأله وقال: يا شيخ! أنت ذكرت هذا، ويوجد حديث كذا، فنظرت إليه ولعله في المتوسط أو في الثانوي ولم يجاوزها، فقال الشيخ حفظه الله، بعد أن أورد الحديث: ائت بالحديث وإذا صح رجعنا عما قلناه.
أحدنا لو اعترض عليه صغير أو كلمه، قال: هذا طفل وهو لا يفقه شيئاً، أو أخذ الإنسان يلف يمنة ويسرة، وقال: المسألة خلافية، ولعلنا نرجح كذا، لا، بل المسلم ديدنه أن يبحث عما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك يلتزم به.
الأدب الذي أحب أن أنبه عليه وقد نبه عليه العلماء رحمهم الله تعالى، وهي قضية العمل بالعلم، إن الأحبة عاشوا في هذه الأيام أجواء مليئة بالعلم، يقول السلف: [هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل] وجاءت الآيات تبين: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢] ويقول نبي الله شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨] وقوله: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:٦٣] {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:٧٩] ذكر العلماء في تفسير (ربانيين) : بأنهم الذين يعلمون ويعملون.
ومن اللطائف في طلب العلم، وإن كنا نذكر أمثلة عليها: اتصلت على سماحة شيخي منذ أربعة أيام أستفتيه في مسألة، وهو في الطائف وأنا في الرياض، وعندما اتصلت سلم علي حفظه الله، ثم إذا بي أسمع المؤذن عندهم في الطائف، ثم قال لي: انتظر، إن المؤذن يؤذن؛ لأجل الإجابة، ثم بعد ذلك سل ما بدا لك، فقلت: سبحان الله! لو اتصل عليك أحد من هنا وهناك هذا وقت، وجلست أنتظر في المكالمة أردد مع مؤذن الطائف، والشيخ يردد كذلك، فقلت: سبحان الله! انظروا مثالاً عظيماً على قضية التطبيق والامتثال، وأن الإنسان ينبغي له أن يكون من أحرص الناس على التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وزرت أحد مشايخي الكبار وكان عندي سؤال، وحدثته بالقصة، سبحان الله! ويؤذن المؤذن وكنت أتكلم، قال: طبق، سمعت.
وسكتنا، فقال: سبحان الله! كم من مرة نسمع ولا نجيب، ولكن ما تميز به هذا العالم العجيب بقضية التأسي وسرعة التطبيق، ولهذا نقول: سبحان الله! فيما أعرفه عن هذا العلامة أنه ما ثبتت عنده سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا طبقها، لا في أذكار ولا في أوراد، ولا في دعاء استفتاح، ولا في غيره من العبادة، لا تصح عنده سنة إلا نفذ، ولهذا أقول: رفع الله شأنه، وأعلى منزلته، وأعظم أجره فيها، وجعله أنموذجاً للتأسي والقدوة، وحببه الله للناس، كله بسبب محبته لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقه لها.
نجد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، ومنها: عن علمه فيم عمل به) وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى حديثاً في صحيح مسلم، ويسمى من المسلسلات، ومنها: حديث مسلم نذكره بسنده، قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن عوف، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسار إليه، قال: سمعت أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بنى الله له بهن بيتاً في الجنة) نجد الآن التطبيق العملي، قالت أم حبيبة: [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من النبي صلى الله عليه وسلم] قال عنبسة الراوي عن أم حبيبة: [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من أم حبيبة] قال: عمرو بن عوف الراوي عن عنبسة: [فما تركتهن منذ أن سمعتهن من عنبسة] قال النعمان بن سالم: "فما تركتهن منذ أن سمعتهن من عمرو بن عوف " مسلسل في التطبيق، ويدل هذا على أنه ينبغي للمسلم أن يكون حريصاً على تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم علمه ورداً: (إذا أويتما إلى فراشكما فسبحاً) قيل لـ علي: ما تركت وردك؟ قال: [ما تركته منذ أن سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا له: ولا ليلة صفين -وقت المعركة- قال: ثكلتك أمك ولا ليلة صفين] مع وجود القتال ما نسيه.
وأقول للأحبة: وكان في الذهن إعداد محاضرة كنت سميتها: (التأصيل والترقيع في واقعنا المعاصر) وكان هذا من الأدلة على إثبات التأصيل عند الصحابة رضي الله عنهم.
أقول للأحبة: نحن ننطلق إلى سفر، ونصبح كلما صعدنا السيارة نقول للشباب: جزاكم الله خيراً لا تنسوا دعاء السفر، ونسافر معهم عشر سنوات ودائماً: لا تنسوا دعاء السفر، لا تنسوا أوراد الصباح والمساء، علي بن أبي طالب ما تركه بعدما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أبداً قال: [ولا ليلة صفين] وهكذا نجد أم حبيبة وغيرها سمع ولزم، وعرفت فالزم، أي: تمسك بهذا، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: ما كتبت حديثاً إلا وقد عملت به -أي: إذا ثبت عنده عمل به- حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا قينة ديناراً، قال: فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك قال سفيان رحمه الله: من عمل بما يعلم كفي ما لم يعلم أي: يعلمه الله ويفتح الله عليه خيراً، إذا عرفت حفظ الحديث فاعمل به، قال الإمام ابن الجوزي ونختم به: لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، يقول: الذي استفدت منه العامل بعلمه، وإن كان غيره أكثر علماً منه.
هذا أدب وأمررناه على عجل، وننطلق إلى ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى من قضية النار -نعوذ بالله من النار- والجنة.