للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أنواع السؤال في نصوص الكتاب والسنة]

يقول الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى: السؤال في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على نوعين: أحدهما: ما جاء على وجه التبيين والتعلُّم مما تمس الحاجة إليه، فهو إما مباح أو مندوب أو مأمور به، فإذا سأل الإنسان عن هذه الأمور لا مانع منه.

ولعل من الأمثلة على هذه الأمور: كأن يسألك الإنسان سؤالاً مباحاً، يسألك عن السوق دلني على السوق، هذا سؤال مباح ليس واجباً ولا مستحباً، أو يسألك شخص أن تدله على منزل شخص.

وأما بالنسبة للسؤال عن الأمر المندوب، فهو سؤال أن تعلِّمه من سنن النبي صلى الله عليه وسلم؛ من أجل أن يتفقه فيها.

وبالنسبة للسؤال عن الأمور الواجبة كالسؤال عن القبلة في البلد، فمثلاً: إخوة قدموا من خارج المملكة، ثم أُسكنوا في مسكن ولا يدرون أين القبلة، هل يعذرون بقضية الاجتهاد؟ لا، بل هذا واجب عليهم أن يسألوا، ومثله لما سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) .

ثانيهما: ما كان عن طريق التعنت والتكلف، وهذا مكروه، بل أمر منهي عنه، والله يقول: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:١٠١] .

وقالوا: من الأسئلة التي رد الله على سائليها برد فيه توجيه وتأنيب: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] كأنه ما كان ينبغي أن يسأل عن هذا السؤال {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات:٤٢-٤٤] قطع الطريق على العقول أن تصل إلى ما تريد من السؤال، ولهذا نصل إلى قاعدة مهمة وهي: ليس كل سؤال يجاب عليه.

وأقول للأحبة: إن بعضاً من الناس يكون لديه غيرة ومحبة للدين، وحماساً لنصر دين الله تعالى، فربما يسأل عن أشياء فيتسارع إلى الإجابة عليها، ولذلك ليس كل سؤال يجاب عليه وليس كل سائل يجاب عن سؤاله، فقد يكون السائل متعنتاً لا يريد الحق لذاته، فهنا لا يجاب، وكم سأل الكفار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فسألوه أن ينزل معه ملكاً، وسألوه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً، وسألوه أن يرقى في السماء ولن يؤمنوا لرقيه حتى ينزل عليهم كتاباً يقرءونه، وسألوه أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً، فهل أجيبوا على ذلك؟ لا؛ لأنهم لم يقصدوا من هذه الأسئلة حقاً.

وكذلك بعض الناس يجلس مجلساً ثم يقول: أتريدون أن أرفع ضغط هذا الشخص؟ فيثير عليه سؤالين أو ثلاثة، ثم تكون النتيجة بعدها أن هذا يتحمس وينفعل، وذاك جالس على أريكته يضحك لما يرى من حماسه وغيرته ومحبته لبيان الحق، وهو لم يرد الحق، ولذلك نقول: رويداً في كل سؤال يثار إليك! لا تتفاعل معه، لكن إذا كان الإنسان باحثاً عن الحق مريداً له فيجاب هذا الإنسان على سؤاله.

ومن الأسئلة التي لا نجيب عليها، وهي التي نقول: لا يمكن للعقل أن يجيب عليها، ولا نجد في الكتاب والسنة إجابة عليها، ولا نتكلفها أبداً، مثلما حدث من السؤال للإمام مالك رحمه الله تعالى، لما جاءه رجل قال: يا مالك! الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال له الإمام مالك رحمه الله تعالى: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ثم قال: وما أراك إلا مبتدعاً"، فأمر به أن يخرج من الحلقة، ولعل السبب في ذلك أنه قد يوجد من الأشخاص من يثير أسئلة تكون سبباً لدخول الشبه في قلوب الحاضرين، ويصبح الشيخ إما أن يوجه التلميذ إلى الإعراض عن مثل هذه الأسئلة إعراضاً كلياً، أو يقول له: إن كان عندك ثمة سؤال فلا مانع أن تأتي إلي في البيت، أو بعد انتهاء الحلقة، وسل عما بدا لك، فإن علم أنه يريد حقاً أجابه، وإن كان لا يريد إلا باطلاً فليس له إلا أن يطرد من المسجد ومن حلقة العلم.

ولذلك فإن الله يبغض الألد الخصم الذي دائماً يجادل ويخاصم، ولقد أثني على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ما سألوا إلا عن بضع عشرة مسألة يستفتون فيها، ونزل الرد والجواب لهم، ولقد كان من أدب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدبهم أنهم كانوا يفرحون بقدوم الأعرابي؛ لأنه يسأل عما بدا له، ولعل بعض الأعراب قد لا يكون عنده حسن تعامل في بعض الأشياء، ولعل من الأمثلة: قد يرفع صوته, وقد يقطع الحلقة ويتكلم، وما أراده يسأل عنه بفطرته، ويريد أن يرفع عن نفسه الجهل، ولعل من أمثلة ذلك في قضية زر بن حبيش حديث صفوان، أن زراً سأل صفوان: (هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهوى شيئاً؟ قال: نعم، جاء أعربي ثم نادى بأعلى صوته: يا محمد! يا محمد! بصوت مرتفع، فقال له الصحابة: اغضض من صوتك فإنك بين يدي رسول الله، قال: والله لا أغض، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فرفع النبي بمثل صوته: هاؤم -أي: هاأنا ما عندك؟ قال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال له الرسول: أنت مع من أحببت، قال: فأنا أحب الله ورسوله) يقول أنس رضي الله عنه: [ما فرحنا بمثل هذا الحديث] أي: لم نجد فرحاً بعد الإسلام أعظم من فرحنا بمثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت) قال أنس: [فإني أحب رسول الله، وأحب أبا بكر وعمر، وإني لأرجو الله أن أحشر مع هؤلاء] كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم يسألون ويستفتون.

من الأمور التي ذكرها ابن الأثير رحمه الله ما كان على طريق التكلف والتعنت فهو مكروه ومنهي عنه، قالوا: فكل ما كان من هذا الوجه، ووقع السكوت عن جوابه، فإنما هو ردع وزجر للسائل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥] هذا فيه ردع {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات:٤٢] أليس الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابي قال: (يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها) هل أجابه؟ لم يجبه عن وقتها، هذا يعتبر تأديباً للسائل أن يسأل، قالوا: فإذا وقع الجواب عن السؤال أُعتبر عقوبة وتغليظاً لهذا السائل.

لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن كثرة السؤال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ولعل السبب في ذلك: أن هذا يخالف الأدب في قضية طلب العلم، أن يصبح الإنسان جالساً في مجلس، فكلما ورد في ذهنه سؤال جاء به، ولهذا قال العلماء: إذا كانت الحلقة متعلقة مثلاً بالفقه فلا ينبغي أن يُسأل عن مسائل في النحو، أو يسأل في مسائل في أصول الفقه، وإنما تكون قريبة، وإذا انتهت الحلقة فلا مانع بعد ذلك أن يسأل الطالب عما بدا له وأشكل عليه، لكن إذا كان حول العلم فإنه ينبغي أن يكون حول المسألة التي طرقت.

كان السلف لا يُسألون عن مسألة إلا سألوا السائل: هل وقعت أم لا؟ فإن كانت هذه المسألة وقعت أجابوه، وإن لم تكن وقعت خاصة إذا كانت من الفرضيات، أو كانت من الأمور التي هي معضلة، قالوا: دعوها، فإذا وقعت يقيض الله من يجيب عليها.

أذكر لكم من اللطائف: أننا زرنا بعض بلاد الكفر، وكنا ذات مرة نلقي كلمة عن أهمية العلم وطلبه، فسأل أحد الحضور سؤالاً عجيباً غريباً، قال: -وهو في دولة قد غزت النجوم على ما يسمون وغزت الفضاء- كيف يمكن لنا أن نوصل دعوة الله تعالى إلى الذين يسكنون الكواكب هناك ونبلغهم دين الله تعالى؟ وكأن الأرض قد ملئت بالعلم فما نقص علينا إلا أصحاب الكواكب ليجاب عن مسائلهم وإشكالاتهم.

هل هذه من أسئلة طلب العلم، نقول: هذا مسكين ينشد خيالاً، فهو لم يؤصل نفسه بالعلم ليستفيد، وما أشكلت عليه إلا قضية الساكنين في الكواكب كيف يمكن أن يوصل لهم العلم، والكفار هم الذين وصلوا إلى الكواكب، ونحن المسلمين لم نصل إليها، أي: يشكو حاله بأنه لم يصل إلى غزو النجوم وغيرها، ونقول: هذا ما عرف كيفية العلم والطلب، وما درى به.

<<  <  ج: ص:  >  >>