للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مصير الإنسان بين الشقاوة والسعادة]

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: وبعد فقد تكلمنا عن النار نعوذ بالله من النار وأن نكون من أهلها، واليوم نختم بأن النار كما قال العلماء: سبع طبقات: جهنم، فلظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم الجحيم، ثم الهاوية، ثم سقر، قالوا: ولكل طبقة منها داخلون وسكان، ونعوذ بالله أن نكون من أهلها.

يقول شيخ الإسلام: (والنار يصلاها الشقي) ذكرنا تعريفاً للشقي، ولعل هذا الشقي هو الذي ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (فيرسل إليه ملك، فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد) وأود أن أنبه على مسألة، حتى لا يظن بأن ما دام أنه قد كتب على الإنسان أنه شقي أو كتب عليه أنه سعيد أنه لا خيار له في قضية العمل ولا غيره، وهذا مما سيجعلنا نتكلم عن مبحث القضاء والقدر تكلماً سريعاً، وإن كان المؤلف رحمه الله تعالى لم يذكره هنا.

قال رحمه الله:

والنار يصلاها الشقي بحكمة وكذا التقي إلى الجنان سيدخل

إن الله سبحانه وتعالى كتب على هذا العبد بأنه شقي، وهذا كتب عليه بأنه سعيد ليس هذا جبراً لهذا العبد على العمل، ولكن الله سبحانه وتعالى عالم بما سيعمله العبد، لأن من مراتب القضاء والقدر: العلم، وهو أن تثبت بأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، عالم بما كان في الماضي، وعالم بما هو كائن الآن، وعالم بما سيكون في المستقبل، فهذا الجليل علم ما سيفعله هذا الإنسان، فكتب عليه أهو شقي أم سعيد.

ثم نقول للأحبة: إن الإنسان إذ يعمل العمل، ولنضرب بمثال يسير: حضور الإنسان حلقات العلم، هل يشعر الإنسان بقهر وإلزام بها؟ لا، بل ربما الأشياء التي تسعده لا يشعر الإنسان إلا بالاختيار التام الكامل، ولهذا قال بعض أهل العلم: القضاء والقدر ينقسم إلى قسمين: ١- قسم مجبور الإنسان فيه لا خيار له فيه أبداً.

٢- قسم للإنسان فيه خيار، ويضرب بمثال للقسم الذي مجبور فيه الإنسان: طول الإنسان وقصره، هل للإنسان خيار فيه؟ لا.

ومنه قالوا: كون الإنسان من عائلة فلان دون فلان، ليس للإنسان خيار فيه.

منه: موطن الإنسان فكون هذا -مثلاً- يميناً وهذا عمانياً وهذا من بلد كذا؛ ليس للإنسان فيه خيار، ولو طلب من الإنسان أن يختار لتمنى أن لو كان من أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أهل مكة والحرم، لكنه لا خيار له فيه، ولون الإنسان لا خيار له فيه، ولذلك قال العلماء: إن ما كان من القضاء والقدر المسير فيه العبد، ليس محلاً للتفاضل ولا للتفاخر قالوا: ولا للثواب والعقاب، هذا من رحمة الله تعالى، لا يعاقب الإنسان لأنه من بلد كذا فتزاد عليه العقوبة، والآخر من بلد كذا فيخفف عنه.

وتكلم العلماء إيماءة لطيفة، وممن أومأ إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في اقتضاء الصراط المستقيم، وهي قضية: تفضيل جنس العرب على غيرهم بناءً على الاصطفاءات الربانية التي لهم، اصطفى إبراهيم، ومن إبراهيم إسماعيل، ومن إسماعيل حتى قال: واصطفاني الله من بني هاشم، قالوا: فتلك الاصطفاءات تدل على فضل العرب على سائر الناس.

وتأتي قضية: هل معناها أن العربي يزداد في الأجر أكثر من غيره؟ الجواب: اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إذا تساوى العربي وغيره في التقوى والإيمان والصلاح قد يعطى شيئاً من المزية، لكنه لا يظلم ذاك الرجل، أي: من ليس من العرب.

ومن العلماء من قال بالقاعدة العامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] فجعل الميزان هو تقوى الله تعالى.

قوله: (بحكمة) أي: أنه بحكمة أحكم الحاكمين، فإن الله إذ يدخل هذا الشقي النار بحكمة يعلمها، ليس ظلماً له ولا عبثاً، وإنما بحكمة يعلمها الله تعالى، ولإظهار عدله سبحانه وتعالى.

ذكرنا فيما سبق قضية التقوى والخلاف في التعريف، وجعلناها لبعض العلماء، وذكروا في تعاريفها الاصطلاحية: لما سأل عمر أُبياً عن التقوى؟ قال: [يا أمير المؤمنين! إذا مشيت في أرض ذات شوك ماذا تعمل؟ قال: أشمر -أي: أرفع ثوبي- وأنظر مواطئ قدمي حتى لا أصاب بشوك، قال: فكذلك التقوى] .

وعرفها الإمام ابن القيم في مدارج السالكين بأنها: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

وعرفت بأنها: العمل بطاعة الله بنور من الله، والبعد عن معصية الله بنور من الله.

أي: أنه سائر في الطاعة وفي ترك المعصية بنور من الله وهو الكتاب والسنة، فهو يحمل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>