[لفظ القديم بين النفي والإثبات]
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
وأقول في القرآن ما جاءت به آياته فهو القديم المنزل
لفظ: (القديم) عندنا، ولعل هذا اللفظ: (القديم) كان هو السبب في التوقف في نسبة هذه الرسالة أو هذه المنظومة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن يمكن أن يحمل على محملٍ صحيح، وعندها لا يوجد ثمة إشكال في الجملة.
الأصل أن إطلاق القرآن أنه (قديم) ليس هو قول أهل السنة والجماعة، والسبب في ذلك: أن هذا القول -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - أول من أحدثه هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وسار عليه طوائف، فـ الأشاعرة يرون أن كلام الله قديم، وكذلك السالمية يعتقدون أن كلام الله قديم، ولهذا تُحمل أو تُخرج هذه اللفظة كما في نسخة: (وهو الكريم المنزل) فإذا جاءت: (وهو الكريم) انتهى الإشكال، وليس في العبارة شيء من الوهم، ولكن تحمل على معنىً يقصد به، وهو ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة في كلام الله بأنه قديم النوع حادث الآحاد، متعلق بالإرادة والمشيئة بحرف وصوت يسمع، وكل لفظ وجزئية من هذه العبارة ترد على طائفة انحرفت.
وأهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى منضبطون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقولنا: قديم النوع، فيه رد على الكرامية التي تعتقد أن الكلام حدث لله بعد أن لم يكن متكلماً فكان، لم يكن متكلماً ثم حدثت له صفة الكلام، وهذا الكلام ليس صحيحاً بل باطل، والسبب أنه يؤدي إلى أن يكون الله ناقصاً ثم وجد له الكلام فأصبح كاملاً به، ولهذا قالوا: أصلها قديم، أي: أنه لا بداية لكلام الله تعالى، فنقول: أفي هذا الزمن بدأ يتكلم وقبله لم يكن متكلماً؟ بل الله سبحانه وتعالى موصوف بالكلام أزلاً ولا بداية لكلامه سبحانه وتعالى.
قولنا: حادث الآحاد، أي: أن آحاده متجددة، بمعنى: أن الله قبل أن يخلق آدم خاطب الملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:٣٠] ثم بعد أن خلق الله آدم قال له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:٣٥] هل كل هذا الكلام كان في وقت واحد؟ لا، الله تكلم قبل أن يخلق آدم، ثم تكلم بعد أن خلق آدم، كذلك قال لآدم: اخرج أنت وزوجك، أمرهم بالخروج من الجنة، فحدث كلام، ثم كلم موسى بعد ذلك، ثم كلم محمداً صلى الله عليه وسلم، ولم يزل ربنا يتكلم متى شاء كيف شاء.
وقولنا: متعلق بالإرادة والمشيئة: وهو أنه بمعنى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢] وإذا أراد الله أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، دل على أنه متعلق بإرادته ومشيئته، يتكلم متى شاء كيف شاء سبحانه وتعالى وبما شاء يتكلم.
وقولنا: (بحرف وصوت) : لا يمكن أن يكون الكلام أبداً إلا بحروف؛ ولأننا نجد من طوائف المبتدعة من تقول: إن الكلام حدث كله في وقت واحد، وهذا قول للسالمية، فمثلاً: بسم الله الرحمن الرحيم، أو أي آية من القرآن قالوا: إنها خرجت جملة واحدة، فلم يتقدم الميم على الباء، في باسم الله، بل خرجت كلها خروجاً واحداً، وهذا كلام باطل لا يمكن أن نسلم به بوجه من الوجوه، بل إن مجرد التأمل -كما قال الإمام ابن القيم - يكفي في بطلان هذا الرأي، وبطلان هذا القول.
وقولنا: (بحرف وصوت يسمع) رداً على المبتدعة الذين يقولون: إن كلام الله لا يسمع، كذلك بالصوت، فقد قال البخاري رحمه الله تعالى وذكره الحافظ ابن حجر وغيره من كبار أئمة السلف: إن كلام الله بصوت، والدليل عليه: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم:٥٢] والنداء لا يكون إلا بصوت، إذا قيل: نادِ فلاناً، لا يمكن أن تناديه بدون صوت، والله سبحانه وتعالى نادى موسى عليه الصلاة والسلام، ونادى محمداً، وحصل له مناداة ومناجاة، ويقال: إن النداء يكون بصوت مرتفع، والنجاء يكون بصوت منخفض، وكلها تدل على أن فيها صوتاً، وأنها تسمع، فسمع آدم كلام الله, وسمع موسى كلام الله، وسمع محمد صلى الله عليه وسلم كلام الله تعالى.
نأتي إلى لفظ: (القديم) إطلاق القدم بالنسبة للرب سبحانه وتعالى نجد أن صاحب الطحاوية قال: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) والأصل عندنا في الألفاظ التي نصف الله تعالى أو نسمي الله بها أنه لابد فيها من نص، فلفظ القديم لا نطلقه على الله تعالى على أنه من أسمائه وصفاته لأننا لم نجد له دليلاً من كتاب ولا سنة، وإنما الدليل ورد في الأول: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) أما إطلاق (القديم) فإنه لا يعتبر من أسماء الله الحسنى.
ومن غرائب المتكلمين أنهم يجعلون أخص وصف لله هو القدم!! وهذا قول للمعتزلة، وذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن لفظ القدم ليس من الأسماء أو الصفات التي هي حسنى، والسبب: أن الله لما ذكر القمر قال: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:٣٩] والعرجون القديم دل على أنه كان من قبل فيه كمال ثم رجع عرجوناً، والعراجين هي في النخل يحصل فيها ميلان، ثم بعد ذلك كانت قبل ليست مائلة، ثم حدث فيها ميلان، ووصف القدم يدل على أنه كان سابقاً فيه شيء من الحسن، ثم بعد ذلك تقادم فأصبح الناس لا يرون فيه حسناً، ولهذا تجد أن العملات القديمة والآثار القديمة وغيرها ليست مجالاً لأن يعتز بها وتعتبر شيئاً حسناً في الجملة، ولهذا لما ذكر الله: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء:٧٦] يعني: المتقدمون عليكم أنتم.
وذكر الله أن فرعون يقدم قومه يوم القيامة بمعنى: يتقدم قومه، وسميت القدم قدماً نظراً لأنها تتقدم على جسد الإنسان أو على بدنه في المشي، لكن إدخال (القديم) في أسماء الله الحسنى ليس بصحيح، بل هو مشهور عند أهل الكلام، وقد أنكر السلف عليهم في هذا، ولكن نقول: الأولى الأخذ بضابط الشرع ونقول: (أنت الأول فليس قبلك شيء) وهو الصحيح الذي دل عليه الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.