[إخلاص النية في طلب العلم]
أتكلم حول أدب واحد وأسكت بعدها؛ لأنطلق لشيخ المسلمين وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أقول للأحبة: أول أدب: إخلاص النية لله تعالى في الطلب، كيف لا وطلب العلم يعتبر عبادة! وعندنا قاعدة: أن العبادة لا تصح إلا بنية خالصة، وأي إنسان يطلب ثواباً للعبادة بدون نية وبدون إخلاص فإنه لا يستفيد من ذلك أبداً، والله تعالى قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥] .
ويقول الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى في مسألة حسن النية في طلب العلم: إن حسن النية لا يكون إلا بأمور: ١- أن يقصد الإنسان بطلب العلم وجه الله تعالى.
٢- أن يقصد به أن يعمل بهذا العلم، وإن العلم الذي يحمله ربما يكون حجة عليه لا حجة له بين يدي الله تعالى.
٣- أن يقصد به إحياء الشريعة ونشرها في الناس، وتبصير الناس فيما علم.
٤- تنوير قلبه وتحلية باطنه.
٥- القرب من الله تعالى يوم القيامة والتعرض لما أعده الله لأهل العلم من رضوانه وعظيم فضله.
يقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي".
وسبحان الله! فقد نقل عن كثير من السلف أن بعضهم ربما تصدر يوماً لإلقاء كلمة أو بيان شيء للناس ثم يسكت، قيل: لِمَ لم تتكلم؟ قال: "أعجبتني نفسي فأردت أن أهينها" كأنها استشرفت فأراد أن يؤدبها تأديباً عملياً، فأعظم ما يؤدب الإنسان أن يؤدب نفسه، وغيره ربما لا يطلعون عليه، وما في القلب والنفس لا يعلم به إلا الله سبحانه وتعالى تحتاج تصفية.
ولهذا وجب على المسلم أن يقصد بطلبه للعلم وجه الله، لا يريد منه أغراضاً دنيوية، ولا تحصيل رياسة، ولا جاه، ولا مال، ولا مباهاة الأقران، فربما بعض الأحبة يحضر حلقات العلم، قال: لأكون أفضل من فلان وفلان، أو من أجل أنك إذا بحثت مسألة ناقشته وأفحمته في هذه المسائل.
نقول: أبعد هذا المرض من قلبك فإنه يفسد عليك العلم، ويسحب منك بركته، وبعضهم قد يطلبه لتعظيم الناس له، وللتصدر في المجالس.
لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) والحديث رواه ابن ماجة، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله.
فنعوذ بالله أن نسير على طريق آخره إلى النار، بل نسأل الله أن يكون طريقنا إلى جنات عدن.
أختم بحديث عظيم جداً ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وقد بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أوائل من تسعر بهم النار، وأول من يقضى عليه يوم القيامة، ذكر منهم النبي صلى الله عليه وسلم والحديث طويل: (رجل تعلم العلم وقرأ القرآن، ولكنه أوتي به، فعرفه الله نعمه، ثم قيل له: تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: قارئ ثم يؤمر به فيلقى في النار) نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء القوم.
وبناءً عليه: وجب علينا أن نحرص على طلب العلم، وأن نستفيد منه.
أذكر قصة واقعية: كنا في حلقة شيخنا قريباً من عشر سنوات أو أكثر من ذلك، وهو شيخنا العلامة مفتي هذه الديار، وكان أحد طلابه يقرأ عليه من فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان فيه بيان فضل العلم وطلبه وأهميته، وقد ذكر شيخ الإسلام حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح، والحديث طويل: (إن لله ملائكة سيارة يبحثون عن حلق العلم، حتى إذا وجدوها نادى بعضهم بعضاً: هلموا إلى بغيتكم، فتجتمع الملائكة، وتحضر إلى حلقة العلم، فإذا انقضى الدرس ذهبوا إلى ربهم وسألهم وهو أعلم بهم) -الحديث بطوله: يسألونك الجنة، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد لها طلباً يستعيذون بالله من النار، كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد هرباً منها وفزعاً منها ثم يقول الله: ماذا يسألون؟ قالوا: يسألونك يا رب مغفرة الذنوب، فيقول الله: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: إن فيهم فلاناً ليس منهم -كمن مر حول المسجد فسمع هاتفاً فدخل ولم يكن في نيته طلب العلم- فيقول الله: (أشهدكم أني قد غفرت لهم جميعاً، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وقال الشيخ هنا وقفة عجيبة: وبكى الشيخ في هذا الموطن وهو في حلقة علم، وأعظم حلقة أشعر بها في نفسي في وجه الدنيا حلقة شيخنا، ومع ذلك قال: "وإنا لنرجو الله أن نكون منهم".
إذا كان هذا الشيخ يقول هذه الكلمة، نقول نحن: وإنا لنسأل الله أن نكون منهم، وهذا يدلنا على فضل حلقات العلم وحضورها، وأنها ليست هينة، ولئن زهد الناس فيها فهي عند الله عظيمة، ولها منازل عالية.
وسبحان الله! إني أرى عجباً، أخيار السماء -ملائكة الله- ينزلون على أخيار الأرض، جمع الله الطيبين مع الطيبين، ولذلك سل ربك دائماً أن تكون من القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، فإن في ذلك الخير والبركة والنفع.