[أقسام التوسل المشروع]
لما كان التوسل نوع من العبادات، نقول: إن التوسل ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: التوسل المشروع، ويقصد به ما دل الكتاب والسنة على جوازه، وهذا لا شك أنه يجب علينا أن نعمل به؛ لأنه من العبادة التي نعبد لله بها.
القسم الثاني: التوسل الممنوع، وهو ما لم يدل عليه الكتاب والسنة.
والتوسل المشروع ثلاثة أقسام: القسم الأول: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، ودليله قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:١٨٠] كأن تقول: اللهم أنت السميع الذي تسمع كل شيء، اللهم أنت المدبر لهذا الكون والمصرف له، اللهم إن لك الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك إلخ.
ولعل من التوسل أن تقدم شيئاً قبل أن تطلب ما تريد، فإذا قلت: اللهم إن لك الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنت الذي تدبر هذا الكون، أسألك بكل اسمٍ هو لك إلى الآن هذا توسل، فإذا قلت: ارزقني الهداية، وثبتني على صراطك، وارزقني ذرية صالحة إلى غيره، فذلك هو المطلوب، فقدمت مقدمة من أسماء الله وصفاته قبل أن أنطلق أطلب حاجتي ولذلك يقول الله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:١٨٠] .
ونجد من الأدلة على ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:٣٨] ثم جاء بعدها في دعاء إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:٤٠] جاء قبل ذلك بمقدمات من أسماء الله وصفاته، وهذا يعتبر من أعظم الوسيلة التي نتقرب إلى الله تعالى بها.
القسم الثاني: التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح الذي يقدمه الإنسان في الحياة الدنيا، ولذلك فإن من الأعمال الصالحة التي نقدمها في الحياة الدنيا كثيرة مثل: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:١٩٣] أليس الإيمان عمل؟ بل هو عمل، ثم جاء بعدها الدعاء، مثل أعمال صالحة تقدمها وقد دل عليها الكتاب والسنة، فمثلاً: نحن صلينا الصلاة، فتقول في الصلاة: اللهم إني يا رب قمت بين يديك، وأديت هذه العبادة، وركعت لك وسجدت استجابة لما جاء في كتابك وسنة رسولك، اللهم إني أعمل الصالحات في هذه الحياة الدنيا بعدها: ارزقني، اعطني، وفقني، ثبتني على صراطك، فأقدم أعمالاً صالحة.
ومن أعظم الأدلة على ذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما حصل من التوسل بالثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فإنهم قدموا أعمالاً صالحة في هذه الحياة الدنيا، فأحدهم توسل ببره لوالديه، والثاني: توسل بتركه للزنا، والثالث: توسل بتنمية مال الأجير.
ولعلي أقف وقفة لطيفة هنا في قضية بر الوالدين، فإن هذا الرجل له أعمال صالحة كثيرة، وهم كانوا في مسير، وأووا إلى غار، ولعلهم أرادوا أن يستظلوا من الشمس، أو يناموا فيه، فانطبقت عليهم صخرة من أعلى الغار، وبعدها دفعوها بأيديهم فلم يستطيعوا، فما كان منهم إلا أن جلسوا ينتظرون الموت، ثم بعد ذلك قال أحدهم: إنه لا منجي لكم إلا الله، فإني أرى أن يتوسل كل واحدٍ منكم بأحسن عمل قدمه في هذه الحياة الدنيا، تعبد لله تعالى فيه.
فذاك توسل ببره بأبويه، فقال: ما كنت أغبق أحداً قبلهما، فذكر من الفضائل العظيمة أنه ما كان يعطي أحداً اللبن قبل أن يعطي والديه أبداً، وتأخر عليهم ليلة من الليالي، فلما جاء وجد والديه قد ناما، وصبيته يريدون اللبن ولم يعطهم إياه أبداً ولم يقدمه لهم، بل جلس واقفاً ينتظر، وتأخر ساعات طوال وصبيته يتضاغون يبكون تحت قدمه فما أعطاهم شيئاً، وعندما استيقظ والداه سقاهما، ثم بعد ذلك سقى صبيانه ثم قال: اللهم إن كنت قد عملت هذا العمل ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.
وهذا يدل على أن الواجب على المسلم أن يحسن إلى والديه: بالنفقة، وبالكلام الطبيب، وبالابتسامة، وبالجلوس بين أيديهم إلى غيره، ونحن نعلم أنه قد روى الإمام مسلم بلاغاً، قال: وبلغنا أن أبا هريرة رضي الله عنه ما ذهب للحج إلا بعد أن ماتت أمه، براً بها؛ نظراً لأنها كانت كبيرة السن، وتحتاج إلى شيء من الجلوس عندها.
كثير من المسلمين لا ينظرون لحقوق الوالدين شيئاً، وتجد أن الإنسان يسافر إلى مكة، وينطلق إلى هنا وهناك ويخرج ووالدته تأمره بالجلوس، بل إن بعضهم قد يسافر إلى مكة أيام رمضان ولا يعبأ بوالدته تحتاج إلى أن يوصلها أو إلى أن يزور بها، أو إلى إحسان إليها، أو إلى نفقة أو غيره، وقد تقول له: لا تذهب فلا يصغي لها، ولا شك أن هذا من الخطأ والجهل، فهؤلاء مساكين ما علموا أنهم بتعبدهم وذهابهم إلى مكة قد أخذوا بالمفضول مع تركهم للفاضل، فبقاء الإنسان عند والديه أعظم أجراً وأفضل عند الله من حج النافلة، ومن عمرة النافلة، بل أفضل نوافل العبادات كلها، نجد أن بر الوالدين من الواجب علينا أن نحرص عليه أشد الحرص، فهؤلاء لما توسلوا بأعمالهم الصالحة فرج الله عنهم ما هم فيه، وأزال ما هم فيه.
القسم الثالث: من التوسل المشروع: التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين، وقد أخذ به إخوة يوسف، فإنهم قالوا: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:٩٧] وقال يعقوب: إنه سيستغفر لهم ربه، وأنه سبحانه وتعالى هو الغفور الرحيم.
ومنها: قصة العباس عندما كان مع عمر بن الخطاب، فإن عمر كان يقول: اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا، وإنا الآن نتوسل بعم نبينا، قم يا عباس فاستسق لنا، فقام العباس رضي الله عنه فاستسقى للصحابة فسقوا، وذلك في عام الرمادة.