[نفي الشبيه والمثيل لله تعالى]
الأصل الثاني من الأصول عند أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى في كل ما ثبت له من الأسماء والصفات لا يماثل شيئاً من خلقه أبداً، ما ورد من الأسماء والصفات لله تعالى لا يماثل أحداً من خلقه أبداً، بل كل ما ورد من الأسماء والصفات فهو مختص به، مثل: (يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر ثم يدخلان الجنة) فيه إثبات الضحك لله تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤] إثبات اليد، فلا يأتيني أحد من الأشاعرة أو من المعتزلة أو الجهمية أو غيره ويقول: نعوذ بالله لا يمكن أن نثبت لله الضحك.
نتساءل لماذا؟ قالوا: أصلاً الضحك من صفات المخلوقين، ونحن لا يمكن أن نثبته، نقول: لا، الأصل إذا أثبت الله لنفسه شيئاً من الأسماء والصفات لا ندخل في عقولنا قضية المماثلة أبداً بوجه من الوجوه، فما ثبت في كتاب وسنة أثبتناه لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.
ونجد أن الله سبحانه وتعالى قد سمى نفسه بأسماء وسمى خلقه بأسماء، ووصف نفسه بصفات ووصف خلقه بصفات، ومع ذلك لا يمكن أن يرد في العقل مقتضى المماثلة أو المشابهة، ولهذا إذا جئنا إلى قضية التسلسل كأنه تدرج، فأتينا مثلاً عندنا أشاعرة، ثم معتزلة، ثم جهمية، ثم فلاسفة، وإن كان هذا التسلسل الذي أذكره ليس تسلسلاً تاريخياً، فـ الأشاعرة يثبتون لله سبع صفات، والمعتزلة تثبت الأسماء دون الصفات، والجهمية لا تثبت الأسماء ولا الصفات، والفلاسفة لا يثبتون الإثبات ولا ينفون النفي، فتأتي مثلاً المعتزلة تناقش الأشاعرة فتقول لهم: ماذا تثبتون؟ قالوا: نثبت لله سبع صفات فقط.
إذاً هذه السبع هل هي على ما يليق بجلال الله وعظمته أم أنها تشابه صفات المخلوقين؟ سيقولون: لا تشابه صفات المخلوقين، فيثبتون الحياة والعلم والقدرة، ويثبتون لله تعالى السمع والبصر والكلام، ويثبتون لله الإرادة، سبع صفات، فيقولون: هذه على ما يليق بجلال الله وعظمته، قالوا لهم: الغضب، الضحك، اليد، القدم؟ قالوا: لا، هذه تشابه المخلوق، قالوا: كما أنكم تقولون: اليد والغضب هي للمخلوقين، فالمخلوق له سمع وإرادة وقدرة وله علم وحياة.
لماذا لا تقولون: هذه تشابه؟ فإما أن يقولوا: إن الصفات التي لم يثبتوها لا تشابه المخلوقين فينطلقون لـ أهل السنة، وإما أن يقولوا: الصفات التي أثبتوها تشبه صفات المخلوقين فينتقلون ليصبحوا معتزلة، فأصبح الأشاعرة في برزخ، فلا هم إلى أهل السنة ولا هم إلى المعتزلة.
جاءتهم الجهمية وناقشت المعتزلة فقالت: ما منهجكم؟ قالوا: نثبت الأسماء دون الصفات، قالت لهم الجهمية: لماذا لا تثبتون الصفات لله؟ قالوا: لأن الصفات تقتضي المشابهة.
قالوا: وكذلك الأسماء الواردة في المخلوقين تسمى بهذه الأسماء {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:٥١] سمي هذا الرجل عزيزاً، وهذا من أسماء الله تعالى {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:٤] فقالوا لهم: إما أن تثبتوا الصفات أو تنفوها فتكونوا مثلنا جهمية.
وجاءت الفلاسفة فناقشت هؤلاء الجهمية، فقالوا لهم: أنتم لا تثبتون لله لا أسماء ولا صفات، وبناءً عليه شبهتم الله بالمعدوم، فالذي لا أسماء له ولا صفات يكون معدوماً.
ما رأيكم أنتم أيها الفلاسفة؟ قالوا: نحن تورطنا ورطة ماذا نعمل فقالوا: إذا أثبتنا لله الأسماء والصفات شبهنا الله بالمخلوق، وإذا نفينا عنه الأسماء والصفات شبهنا الله بالمعدوم، فنقول: الله لا حي ولا ميت، ولا سميع ولا غير سميع، ولا متكلم ولا غير متكلم، فنفر من هاتين الصفتين، قالوا لهم: وقعتم في شر مما فررتم منه، والنتيجة: أنكم شبهتم الله بالممتنع.
هل يمكن أن يتصور الإنسان أنه يوجد إله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا حي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، هذا شيء ممتنع.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: إن المبتدعة لا يفرون من محذورٍ مما دلت عليه النصوص فيما يتوهمون إلا وقعوا في مثله أو في شر من مما فروا منه، وهذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنة.
يخشى من تشبيه الله بالإنسان أو بالحي فيشبه الله بالجماد، ويخشى من تشبيه الله بالجماد فيشبه الله بالمعدوم، ويخشى من تشبيه الله بالمعدوم فيقع فيشبه الله بالممتنع، فخير له أن يبقى على ما دلت عليه النصوص ويقول: الله ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى.
هناك قد يرد في الذهن -وهذا ما وقع المبتدعة فيه على وجه العموم- وهو أنهم وجدوا أن النصوص دلت على أن الله سميع والإنسان سميع: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:٢] .
فقالوا: مادام أن الله له سمع والمخلوق له سمع، يجب أن ننزه الله، والنتيجة: الله ليس له سمع ولا بصر، وهذا كلام باطل، فأنت إذ تثبت نصاً لم تثبته من عند نفسك، وإنما الله هو الذي أثبته لنفسه، وبناء عليه نقول: يوجد -وهذا كلام لطيف جداً ذكره شيخ الإسلام وأومأ إليه جمع من أئمة أهل السنة - اشتراك بين أسماء الله وأسماء خلقه، بل بين صفات الله تعالى وصفات خلقه، وهذا الاشتراك في أمرين: الاشتراك الأول: في اللفظ، عندنا (سمع الله) يقول: {وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:١] وذكر الله عن الإنسان أنه يسمى سميعاً بصيراً، هذا اشتراك في اللفظ.
الاشتراك الثاني: في المعنى المطلق الكلي العام، وهذا لا يوجد إلا في الأذهان فقط، فمثلاً: إذا قلت: سمع، ستجد يتبادر إلى الذهن مفهوم مدلول السمع ما هو، يتبادر إلى الذهن نفهم معناه، هذا الذي يتبادر إلى الذهن قالوا: هذا هو المطلق الكلي العام، هذا إذا قلنا: سمع، أين موقع هذه اللفظة؟ أو ما يرد في الذهن فقط، لكن في الخارج لا يوجد عندنا شيء، ولكن عند الإضافة يقول شيخ الإسلام: وعند الإضافة والتخصيص يتميز ذلك، فإذا قلت: سمع الله، ليس هناك مجال للاشتراك، ولا يمكن أن يشابه سمع المخلوق، وإذا قلت: سمع الإنسان، لا يمكن أن يشابه سمع الله أبداً، وإذا قلت: سمع الحيوان لا يمكن أن يشابه سمع الإنسان ولا سمع الله تعالى، فإذا فهم هذا لم يحدث عنده أدنى لبس أبداً.
ما فائدة وجود المعنى المطلق الكلي العام؟ فائدته أن يفهم الإنسان مطلق الألفاظ والنصوص الواردة عليه، ولو لم يوجد المعنى المطلق لأصبحت نصوص الكتاب والسنة نصوصاً جوفاء لا نعرف مدلولها أصلاً كما تقوله المفوضة من المبتدعة، فإنهم يقولون: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] لا نعرف ما معنى السمع، ولا نعرف ما معنى البصر، ولا نعرف ما معنى الحياة، ولا الإرادة، ولا القدرة، ولا غيره، إذاً ما هو مدلوله فإن الله وصف نفسه بها؟ قالوا: الله أعلم بها، نفوض معناها إلى الله، وهذا كلام باطل، وهم بهذا صدوا القلوب عن معرفة الرب سبحانه وتعالى بأسمائه وبصفاته، ولا شك أن في هذا اتهاماً لخطاب الشارع، بأنه ليس مفهوماً ولا مدلول له ولا يعرف إطلاقاً، ولذلك يحتاج إلى شيء من التفصيل والإيضاح وغيره.
ولذلك قال بعض المبتدعة مقالتهم الباطلة وإن كان هذا ليس قول المفوضة، قالوا: علم السلف أسلم، وعلم الخلف أعلم وأحكم، وهذا كلام باطل لا شك فيه، يقولون: علم السلف أسلم، بمعنى: أن السلف رحمهم الله ورضي عنهم إذا جاءتهم النصوص يقولون: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، لا يتعرضون للكيف ولا للتفصيل ولا لغيره، فقط يقول لك: آمن بها وبما دلت عليه لأن النص دل عليه، والخلف قالوا: أعلم وأحكم لأن لهم دراية ومعرفة أفضل مما عند سلف الأمة، ولا شك أن هذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، فإن السلف علمهم أسلم وأعلم وأحكم وأدرى بمدلول النصوص ومعرفة خطاب الشارع من هؤلاء الخلف المبتدعة الذين لم يفهموا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.