[من آداب الطلب: تفريغ القلب للعلم]
يجب أن يبتعد الإنسان عن العلائق التي تكون سبباً لصرفه عن العلم، ولذلك كم من الناس من يبحثون عن أمور تملأ فراغهم، وربما يملئونها بأمور تشغلهم عن الأفضل، وعن الاستفادة والعلو والارتفاع إلى الأكمل، ولذلك تجد كثيراً من الناس ربما يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وربما يشتغل بالمباح عن الواجب، وبالمستحب عن الأمور الواجبة، وكم من الناس من يضيعون أوقاتاً في أمورٍ لا يستفيدون منها، وإنما تحدث لهم ملء فراغٍ لا ينتقلون منها إلى الأكمل والأفضل.
ولهذا لم يكن السلف رحمهم الله تعالى يؤثرون على العلم شيئاً أبداً؛ لأن ثمرة العلم لا يوازيها جلوس مع الناس، ولا حديث، ولا زيارة، ولا اتصال ولا غيره، والعلم علو كامل وثمرة واضحة على صاحبها يستفيد منها في الدنيا والآخرة، ولهذا قالوا: ينبغي للإنسان في قضية الطلب أن يذل نفسه، وقالوا: لن يصل الإنسان إلى العلم ويستفيد منه مع عزة النفس وارتفاعها، بل لا بد من الذل، وأن يصبح الإنسان يقضي وقته كله في العلم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك، ولا عز النفس فيفلح، ولكن إذا طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء، فإنه يفلح في الدنيا والآخرة.
لذلك كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يلازم النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، ما كان يشتغل بالضرب في الأسواق، ولا بجمع المال ولم يكن يشتغل فيه، ولا يتحدث بحديث الناس، ولا بحديث الركب، جل وقته للعلم، حتى كان رضي الله عنه وأرضاه ربما أغمي عليه من قلة أكله وزاده رضي الله عنه، كله لزوماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على ذلك، ولذلك روى الخطيب البغدادي عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن الناس يقولون: [أكثر أبو هريرة، ثم قال: إني كنت لا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني حين لا آكل الخمير، ولا ألبس الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق ببطني الحصى من شدة الجوع] رضي الله عنه.
وأعظم من ذلك أحد كبار الصحابة ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، كان يأتي إلى الصحابي يريد أن يسأله عن مسألة فلا يقرع عليه الباب تأدباً معه، وربما كان في الظهيرة ويدركه النوم وينام على عتبة باب هذا الصحابي، ويخرج ويجد ابن عم رسول الله هنا، ويقول: لِمَ لم تقرع ولِمَ لم تستأذن؟ قال: هكذا أمرنا أن نتأدب مع علمائنا.
صبراً وتحملاً في الطلب، وعدم إزعاجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن جماعة رحمه الله تعالى: على طالب العلم أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخداع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من حياة الإنسان ومن عمره لا يمكن أن يبدلها، ولا يمكن أن يعوض عنها، وعليه أن يقطع ما يقدر من العلائق الشاغلة.
كثير من الناس قسموا أوقاتهم ليلة في الأسبوع هذه لجلسة كذا، وليلة أخرى لزيارة وغيرها، وثالثة لجلوس مجالس ربما يضيع وقتها ولا يستفيد منها.
كان السلف يقطعون علائقهم كلياً، والسبب: لانشغالهم بذات العلم، وقالوا: إن ذلك من تمام الطلب أن يقطع الإنسان العلائق، وأن يبذل الجهد، وأن يقوي نفسه بالجد والتحصيل ليستفيد، ولذلك كان السلف رحمهم الله تعالى يغتربون في طلب العلم، ويبتعدون عن الأهل والأوطان؛ تفريغاً لأنفسهم في تحصيل العلم، ولذلك قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.
وعجباً من كثير من الأحبة! يجعلون للعلم فضالات أوقاتهم، فإذا لم يجدوا شغلاً في أمورهم الذاتية وفي حاجاتهم النفسية وفي علائقهم، قالوا بعد ذلك: هذا الوقت سنجعله للعلم.
وربما يجعل أحدهم درساً في الأسبوع، وينظر لنفسه أنه قد فاق تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء زمانه، ويقول: جعلنا للعلم وطلبناه وسرنا له واستفدنا منه، وما علم أنه ما حصّل إلا جزءاً يسيراً، ولا نقول: إنه لم يستفد علماً، لكن علمه الذي حصله لم يكن له ثمرة كما يحدث لمن سافر في طلب العلم واغترب.
أذكر قصة لطيفة من اللطائف: كنت أقرأ في أحد الكتب، فذكر أن هذه هي عقيدة الإمام أحمد رحمه الله وبقي بن مخلد وغيره، بقي بن مخلد رحمه الله تعالى هو ممن سافر إلى الإمام أحمد وهاجر إليه، وذكروا أنه جاء من الأندلس، ولد في رمضان سنة (٢٠١هـ) ورحل إلى الإمام أحمد من الأندلس إلى أن وصل، ولما قرب من ديار الإمام أحمد علم بأن الفتنة قد قامت بخلق القرآن، وأن الإمام أحمد لا يستطيع أن يحدث بحديث رسول الله في المسجد، ولا يستطيع أن يبين عقيدةً؛ نظراً لأن المعتزلة كان لهم الحكم والصولة والجولة، وكانت الخلافة قد أخذت برأي المعتزلة، فحوصر رحمه الله عن التحديث.
يقول: لما قربت من بغداد اغتممت غماً شديداً، والسبب: أني قدمت من الأندلس؛ لأطلب العلم على يد الإمام أحمد، ولما علمت بأني سأمنع حزنت لذلك أشد الحزن، قال: فلما دخلت بغداد استأجرت لي حانوتاً وأنزلت متاعي ثم ذهبت إلى المسجد، فأتيت الجامع الكبير، وأنا أريد أن أجلس إلى الخلق، وأتعلم من كبار أئمة السلف، وأتذاكر معهم، قال: فجئت إلى حلقة نبيلة، وإذا برجل جالس في الحلقة يكشف أحوال الرجال، ويضعف هذا ويقوي هذا، فسألت: من هذا الرجل؟ قالوا: إنه يحيى بن معين رحمه الله، فرأيت فرجة قريبة من عنده فاندسست حتى وصلت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا! رحمك الله رجل غريب نائي الدار، أردت أن أسأل فلا تستخفني في شيء، ثم سأله عن بعض أهل الحديث، فبين له ضعفهم وغيره، قال: فسألته عن هشام بن عمار رحمه الله تعالى، وكنت قد أكثرت من الأخذ عنه؟ فقال يحيى بن معين: أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة، دمشقي ثقة وفوق الثقة، قال: ففرحت؛ لأنه قد حكم عليه بصلاحه وبتوثيقه، ثم سألته عدة أسئلة، قال: صاح من حوله يكفيك، كمن يسأل ويلح على الشيخ، يكفيك فغيرك كثير يريدون أن يسألوا.
ثم سألته عن الإمام أحمد، وعجب يحيى بن معين رحمه الله تعالى ونظر إلي كالمتعجب وقال لي: ومثلنا نحن نكشف عن الإمام أحمد، أي: هل نحن نتكلم في الإمام أحمد أو نقول فيه شيئاً؟ إن ذاك إمام المسلمين، وخيرهم وفاضلهم رحمه الله.
ثم قلت: دلوني على منزل الإمام أحمد، قال: فسرت إليه، وقرعت الباب، وكان بيته مراقب لا يستطيع أحد الدخول عليه، ثم أخبرته بخبري، وقلت له: يا أبا عبد الله، رجل غريب نائي الدار، جاء من بعيد، وإني أريد أن أدخل إليك، وإني طالب حديث ومفيد سنة، أي: أنني أرغب أن أستفيد، ولم تكن رحلتي إلا إليك، أي: ما قدمت من الأندلس إلا لأجلك، فأدخله الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ثم سألني: من أين أنت؟ قال: جئت من المغرب الأقصى.
قال: من أفريقيا؟ قال: من أبعد من ذلك، بيني وبين أفريقيا بحر، جئتك من الأندلس.
قال: إن موضعك لبعيد، أي: إن مكانك لبعيد، كيف بهذه الهمة العجيبة.
ذكروا أنه مكث سنة كاملة حتى وصل إلى الإمام أحمد، ومع ذلك قدم ووجده لا يستطيع أن يستفيد علماً، ومع ذلك طلب منه أن يعمل حيلة، والقصة بطولها ذكرت في طبقات الحنابلة، وترجم لـ بقي بن مخلد رحمه الله ترجمة في مقدمة مسنده، وهو يعتبر من كبار أئمة أهل السنة رحمه الله تعالى.
ثم قال له رحمه الله بحيلة: إني أريد أن أطلب الحديث عليك، قال: إنك كما ترى، ثم احتال حيلة صنع له ثوباً وكماً طويلاً، ثم كان يضع الدواة والقلم في كمه ويقرع على الإمام أحمد ويقول: الأجر رحمكم الله، وأحياناً يقول: سائل يسأل من فضل الله الذي عندكم، ويدخل إلى الإمام أحمد يروي له حديثين أو ثلاثة أو يزيد على ذلك ثم يخرج، قال: فالتزمته حتى ماتت الفتنة، ومات الخليفة الذي كان يمتحن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ثم بعد ذلك طلبت العلم على يديه، وجلست عنده، وكان إذا رآني الإمام أحمد أجلسني عنده وقص لتلامذته خبري، وما قدمت من أجله، وكان يرى أنني على تميز على التلاميذ، ويذكر لهم ما كنت قدمت من أجله.
أصبت بمرض، قال: فجلست في الحانوت أياماً، وفقدني الإمام أحمد، ثم سأل عني فإذا بي مريض، قال: فكنت من شدة المرض مغطى ومسجى بما عليه من اللباس وغيره رحمه الله، قال: فما شعرت إلا وبلغط في السوق، وبصوت عظيم، والناس يقولون: هذا إمام المسلمين، أي: قدم إليه لزيارته رحمه الله ومعه التلاميذ، وكل تلميذ معه دواته وقلمه يكتب ما يقول الإمام أحمد، يستفيدون من علمه في أثناء الطريق بفتوىً أو سؤال أو غيره والناس يقيدون، قال: فدخل علي الإمام أحمد، وعجب أهل الحانوت كلهم لماذا جاء إمام المسلمين هنا؟ قال: وزارني ثم دعا لي بالشفاء وخرج، ثم قال رحمه الله: فما وجدت أعظم من أهل الفندق الذي كنت أسكنه براً بي وإحساناً، لدخول عالم الأمة لزيارة هذا الرجل الصالح.
يقول: فكانوا يمرضونني، هذا يغطيني، وهذا يلبسني، وهذا كذا حتى شفيت، كله ببركة هذا الرجل الصالح، وذلك يدل على منازل علماء السلف رحمهم الله تعالى وكبارهم.
وقد قلت عندما تكلمت عن أهمية الطلب والناس في حاجة إلى أمرين: دراسة آداب الطلب، ودراسة سير علماء الأمة وكبارها حتى يعلموا ثمرة العلم وفائدته، وأن هؤلاء العلماء ر