أما قوله:(ولا أتأول) يقصد به التغير، آل الشيء إلى هذا الشيء أي: صار إليه، هذا آل كذا، أي: صار، وقالوا: إطلاقات التأويل يطلق، ثلاثة إطلاقات، وعند السلف ليس منها إلا اثنان فقط: الإطلاق الأول الذي عند السلف: بمعنى التفسير، وهذا إطلاق صحيح، ولذلك كان ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى يقول:(تأويل هذه الآية) في تفسيره دائماً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس:(اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) وهذا المعنى صحيح.
الإطلاق الثاني الذي يطلق عند السلف: هو حقيقة الشيء وما يئول إليه، ومنه أن عائشة رضي الله عنها: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}[النصر:١-٣] قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر في ركوعه وسجوده من أن يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، قالت: كان يتأول القرآن) أي: حقيقة الشيء وما يئول إليه، أخبر بهذا الشيء فطبقه النبي صلى الله عليه وسلم، وكما في قوله تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}[الأعراف:٥٣] دل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يحذرون الناس، ويخوفونهم من عقوبة الله تعالى، فإذا نزلت أخبر هؤلاء وقالوا: هذا تأويل الذي ذكره الأنبياء وأخبرونا به فأصبح.
قالوا: ومنه قصة يوسف عليه الصلاة والسلام لما قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً}[يوسف:١٠٠] فإن يوسف لما كان صغيراً قال لأبيه: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[يوسف:٤] ثم أخبره والده ألا يخبر أحداً، فلما بلغ وكبر أدخل أبويه إلى مصر وخروا له سجداً ورفع أبويه، فلما أخبر، قال: هذا تأويل، هذا حقيقة ما أخبرتك يا أبت، هذا الآن وقع، هو معنىً صحيح.
القول الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر لوجود قرينة، قالوا: وهذا القسم لا يرد على إطلاقه، ولا يقبل على إطلاقه، وإن كان هذا المفهوم انطلق به المبتدعة لنفي ما دلت عليه النصوص الشرعية من المعاني الصحيحة، وكان بهذا انحرافاً، ولذلك جاء التأويل:(يد الله) قالوا: هي القدرة (غضب الله) قالوا: هي إرادة الانتقام أو إرادة الإنعام في الرضا، ولا شك أن هذا معنىً باطل، وليس كل ما ورد في اللغة العربية على إطلاقه يؤخذ به فتفسر النصوص، فمثلاً نجد اليد في اللغة بمعنى القوة، ولهذا تجد الحكام والسلاطين وغيرهم يقولون: أي شخص يخالف هذا الشيء نضرب عليه بيد من حديد، هل معه يد من حديد يضرب بها الناس؟ لا، وإنما يقصد بها القوة، أي: أنه يتكلم بمنطق القوة.
وقالوا في قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[المائدة:٦٤] أي: القوة، إذاً ليس معنى هؤلاء المبتدعة أن الله ليس له إلا قوتين فقط، أو النعمة، فمثلاً: حصل لك حادث وأعطاك شخص مالاً أو غير ذلك، فإنك تقول عن هذا الشخص: والله إن له يداً عندي لا أنساها أبداً، وقد أحسن، هل معناها: أعطاك يده؟ لا، وإنما أنعم عليك، وأحسن إليك بشيء فلا تنساه، فهل إذا قلنا:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[المائدة:٦٤] لم يكن لله إلا نعمتين فقط، هذا تأويل باطل، والله يقول:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) [المائدة:٦٤] وأخبر: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزمر:٦٧] إلى غير ذلك من النصوص الدالة على إثبات الصفات لله تعالى.
إذاً هذا هو مدلول التأويل، ولهذا نجد المبتدعة انطلقوا بقضية التأويل لتغيير ما دلت عليه النصوص، ولم يفهموا ما بُيِّنَ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.