للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ثمار الإيمان بالقضاء والقدر]

أولاً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يعتبر من أكبر الدواعي التي تدعو الإنسان للعمل والنشاط بما يرضي الله تعالى، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل ويقدم على عظائم الأمور بثبات وعزيمة ويقين.

فمثلاً: أنا أسير، ثم بعد ذلك أؤمن بقضاء الله وقدره، مثلما جاء الأعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ناقتي أعقلها وأتوكل أم أتوكل على الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل) أمرنا بالعمل لأمور الآخرة، ثم بعد ذلك نؤمن ونطمئن بأن الله مع أوليائه، وينصرهم ويوفقهم ويعينهم ويسددهم في الدنيا والآخرة، فيصبح حافزاً لك على العمل الصالح.

ثانياً: أن يعرف الإنسان قدر نفسه، فلا يتكبر ولا يبطر ولا يتعالى أبداً؛ لأنه عاجز عن معرفة المخلوق، فإذا كان الإنسان صاحب مال كثير فهو يؤمن بقضاء الله وقدره، وأن هذا هو الذي كتبه الله له، فلا يؤدي إلى التكبر، الله الذي أعطاك هذا الشيء، وإذا كان الإنسان فقيراً رضي بما قضاه الله له وقدره، واطمأنت نفسه بعيشه الذي هو فيه، وسعى لأن يغير من واقعه، وهذا يعطي الإنسان طمأنينة نفسية قوية جداً، لعلمه أن الله هو المدبر لهذا الكون، وهو المصرف له سبحانه وتعالى.

كذلك الإنسان قد خلق محباً للحياة الدنيا، وسبحان الله! يقول إبراهيم بن إسحاق الحربي: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنأ بعيشه، وهذا لا شك أنه صحيح، ولذلك تجد بعض الشباب يعيشون فوق طاقاتهم، وأمرنا كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا أن ننظر إلى من هو أسفل منا؛ لئلا نزدري نعمة الله علينا، لكن في أمور الآخرة والعبادة ننظر إلى من هو أعلى منا، لا ننظر إلى من هو أدنى منا، ولعل هذا يعطينا طمأنينة.

بعض الناس إذا ذهب إلى أصحاب الثراء تقطع قلبه، ثم أخذ يتعب نفسه ويجاهدها بكل الوسائل، ويريد أن يكون مثلهم ولا يكتب له ذلك، لكن إذا علم بقضاء الله وقدره، اطمأنت نفسه، يقول الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٢] .

ولهذا جعل الله بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، جعل الله الناس طبقات، وهذا يوجب للإنسان طمأنينة، والله قد جعل من طبيعة الإنسان: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:٢٠-٢١] لكن من رزق الإيمان بقضاء الله وقدره فلا يتأثر في حال الخير ولا في حال الشر.

ثالثاً: الإيمان بالقضاء والقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تقضي على المجتمعات وتورث الأحقاد بين الناس، ولعلي أضرب للأحبة مثالاً، يقول العلماء: إن الأقران بينهم من الحسد كما بين التيوس إذا كانت في زريبة غنم، وتجد مثلاً اثنين يتنافسان في العلم، تجد كل واحد يبحث عن زلة الآخر، يقول: والله هو طيب ولكن عليه ملاحظات، وتجد هذا يتكلم وهذا يتكلم، لكن من آمن بقضاء الله وقدره اطمأنت نفسه، وأصبح يرضى بما ميز الله بعضهم على بعض، وكم كان لـ شيخ الإسلام رحمه الله من الحساد في عصره، حتى وشوا به إلى السلطان وسجن عدة مرات ومات في السجن رضي الله عنه ورحمه، كله بسبب الحسد، لكن المسلم يرضى، وهذا يكون بين التجار بعضهم مع بعض، وبين أصحاب الأموال، كلما تجد أقراناً تجد بينهم هذا الأمر، ولكن إذا كان الإنسان مؤمناً بقضاء الله وقدره اطمأنت نفسه أن هذا هو الذي قسمه الله له، وما فضل الله عليه بعضاً من الناس {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:٤] .

رابعاً: أن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للقلوب المؤمنة الشجاعة في مواجهة الشدائد، ويقوي بها العزائم، ويثبتها في ساحات الجهاد فلا تخاف الموت:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

وكم كان للصحابة من المواقف العظيمة العجيبة، ولعل من الأمثلة ما ذكر في ترجمة الزبير رضي الله عنه وأرضاه أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاد بعض المعارك، وفي بعضها لم يكن قائداً، وقيل للزبير: لو كنت أميراً علينا في هذه؟ قال: لا تستطيعون أن أكون عليكم أميراً، قالوا له: ولماذا؟ قال: أريكم، كان كبير السن وجيش العدو أمامه، فانطلق بجواده، فشق صفوف العدو ثم رجع مرة أخرى، قال: تستطيعون؟ قالوا: لا نستطيع مثل هذا، وما رجع إلا بطعنات، ويدل على أن هذا يوجب للإنسان طمأنينة أنه لن ينقطع الأجل، وليس دخول المعارك سبباً لقضية الموت.

أيضاً خالد بن الوليد رضي الله عنه كم خاض من معارك يريد الشهادة ومع ذلك ما كتبت له، وإنما مات على فراشه رضي الله عنه وأرضاه.

ويصبح الإنسان عنده شجاعة وطمأنينة بهذا الأمر، توجب له السير على ما كان عليه أو الرضا بقضاء الله وقدره، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس بقوله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك: رفعت الأقلام وجفت الصحف) إلى غير ذلك مما تدعو الإنسان إلى ثمار الإيمان بقضاء الله وقدره.

<<  <  ج: ص:  >  >>