[الأمر الخامس: التوقيف في الأمور الغيبية]
من ميزات منهج أهل السنة: أن الأصل عندهم في الأمور الغيبية التوقيف، أي أمرٍ غيبي الواجب عليك أن تتوقف فيه، بمعنى: أنه ليس للعقل مجال أبداً في الأمور الغيبية.
الأمر الثاني: أنها ليست محلاً لاجتهادات العلماء، ولا يمكن أن يجتمع جمع من العلماء فيجتهدون لنا في الأمور الغيبية أبداً.
والسبب: لأن الأمر الغائب عن العقول لا يمكن أن نتوصل إليه بمعنى أي أمر غائب عن العقل أو غيبي لا يمكن أن نتعرف عليه إلا بطرق ثلاث: الطريق الأول: المشاهدة، فأنت إذا شاهدت الأمر الغائب عنك لم يكن غيبياً بعد، نحن هنا جلوس، ولو سئلنا: ماذا وراء الجدار؟ لا نستطيع أن نعرف، لكن لو خرج إنسان ثم جاء وأخبرنا أن وراءه عدد من السيارات، هل يصبح غيبياً؟ لا يصبح غيبياً؛ لأننا توصلنا إلى العلم بهذا الغائب، وهو من الطرق العظيمة، بل هو أعظم الطرق للوصول إلى الأمر الغائب، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) ونتساءل: لِمَ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد الجنة، وشاهد النار، وشاهد ما أعد الله لأوليائه، وما أعد الله لأعدائه كما ثبت في الصحيح فإنه في صلاة الكسوف كان يصلي بالناس، وفي أثناء الصلاة تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمد يده الشريفة يريد أن يأخذ شيئاً، وتقدم الصحابة معه، ثم إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعدها يرجع ويرجع القهقرى صلوات الله وسلامه عليه، ورجع الصحابة بعده من مكانهم، فقال الصحابة: يا رسول الله! عملت شيئاً لم تكن تعمله من قبل؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (فتحت لي الجنة ورأيتها رأي العين، وأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه إلى قيام الساعة) أمر عجيب! والسبب المشاهدة.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) في حديث: (إن لله ملائكة سيرة يستعيذون من النار، ويسألونك الجنة، يقول الرب: كيف لو رأوها؟ قالوا: لكانوا أشد لها طلباً) وهي الجنة، والنار لو رأوها لكانوا أشد هرباً منها، مما يدلنا على أن الأمر المشاهد له أثر عظيم على النفس.
الطريق الثاني: ونسميه الطريق الذي يوصلنا إلى العلم الغائب الشبيه والمثيل، فإذا وجد شبيه ومثيل لهذا الأمر الغائب وصلنا إلى العلم، وتعرفنا على هذا الأمر الغائب، فلو أخبرتكم مثالاً بسيطاً في شيء، مثلاً: أكلت اليوم تمراً لا يوجد مثله في الدنيا، فتجد أصحاب بلدي يذكرونه، فأهل القصيم يقولون: مثل السكري مثلاً، أو نبت سيف أو غيره؛ لأنه يقربه، فإذا قلت: مثله، قرب إلى الذهن أم لا؟ أو شبيهاً له؟ أوصل لي تصوراً معيناً لهذا الأمر الغائب الذي لم يعرفه الناس، وهذا يعتبر طريقاً صحيحاً، ولكنه ليس كالطريق الأول.
الطريق الثالث: الخبر الصادق: والخبر الصادق لا شك أنه يوصل العلم للإنسان بالأمور الغائبة عن العقول البشرية التي لا تستطيع إدراكها أبداً.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية أو تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى تقعيداً لطيفاً هنا في هذا الموضع: إن الشريعة تأتي بما تحار به العقول، ولا تأتي بما تستحيله العقول، ولعل مثالاً بسيطاً للأمور التي هي غيبية عنا لا يمكن للعقل إدراكها أبداً، من الأمثلة: قضية الجنة والنار، وقضية الملائكة وصفاتهم عليهم الصلاة والسلام ورؤيتها رأي العين، مثلما يتعلق كذلك بذات الله سبحانه وتعالى، وكيفية صفاته، لا يمكن للعقل أن يدركه، هل يمكن لنا عن طريق المشاهدة؟ لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا كما في صحيح مسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت) لا يمكن أبداً.
هل لله شبيه ومثيل؟ الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:٤] فأصبح الطريق الأول والطريق الثاني لا يمكن الوصول إليه.
بقي عندنا الطريق الثالث وهو الخبر الصادق: ونقول الخبر الصادق عندنا هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد، وبالنسبة عندما قلنا للكتاب: إنه خبر صادق؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:١٢٢] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:٨٧] .
ولا يوجد إطلاقاً من يخبر عن الله مثل نفسه سبحانه وتعالى، والله أخبرنا عن أسمائه وصفاته، وعن جنته وناره، وعن ملائكته أخباراً يجب علينا أن نؤمن بها، ولا نجد في أنفسنا شيئاً من التردد في إثباتها؛ لأن الله هو الصادق سبحانه وتعالى، وقد وصف نفسه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:١٢٢] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:٨٧] .
وبالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا شك بأنه صادق؛ لأن الله قد قال عنه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣-٤] .
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: (والذي نفسي بيده اكتب فإن كل ما أقوله حق) دل على أنه لا يقول صلوات الله وسلامه عليه إلا كان الصدق والحق الذي يجب أن تطمئن نفوسنا إليه، ولا نجد في أنفسنا شيئاً من التردد تجاه ذلك.
سبحان الله! كنت أقرأ في أحد كتب العقلانين، وإذا به ينكر أحاديث ثابتة كالشمس؛ لأنه أمرَّ العقل عليها وما علم هذا الجاهل المسكين أنه ما عرف قيمة الكتاب والسنة، ولا قدرهما قدرهما، وإلا كيف يكون للعقل مجال لأجل أن نرد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولعلي أقول للأحبة: لو كان للعقل مجال في أمور الغيبيات فلا ندري نأخذ بعقول من؟ أنأخذ بعقول الأشاعرة؟! أم بعقول المعتزلة؟! أم بعقول الفلاسفة؟! أم بعقول الجبرية؟! أم بعقول الخوارج؟! أم بعقول الفساق؟! أم بعقول أهل الصلاح؟! كل الناس لهم عقول ومشارب شتى، ولكن من رحمة الله تعالى أن جعل لنا تقعيداً عاماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) وسنته صلى الله عليه وسلم باقية خالدة.
ولعل من المثال على ما تحار به العقول تجاه ذلك من الأمور الغيبية، لما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سدرة المنتهى لما رآها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطع ظلها) رسول الله صادق ولا يكذب أبداً، ويبقى العقل حائراً تجاه هذا الخبر، لكنه هل يكون مستحيلاً؟! لا وربي لن يكون مستحيلاً؛ لأن الله قادر على كل شيء.
ولما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ملكٍ من الملائكة، كما في سنن أبي داود بسند صحيح إذ قال: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) كيف يكون هذا المخلوق العجيب؟! ولكن نقول: آمنا بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم.
قاعدتنا تجاه الغيبيات هو التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقاً بذلك، وهذه قاعدة عظيمة جداً.
ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وأرويه لكم بمعناه: لما عدا ذئب على غنم، ثم أخذها الراعي من الذئب -أخذ الذئب شاة فجاء الراعي وأخذها- فتكلم الذئب قال: من لها يوم لا راعي لها إلا أنا!! فقال الصحابة رضي الله عنهم: عجباً ذئب يتكلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولكني اؤمن به أنا وأبو بكر وعمر) تسليم قال: وما كان أبو بكر وعمر في المجلس؛ لأن قاعدتهم: هو التسليم للأمر الذي تحار العقول تجاهه، وكم هي الأمور التي جاءتنا في شرعنا يبين لنا أنها غيبية وبعضها خوارق للعادات، والواجب علينا التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
سار الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ الانحراف بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بأسبابٍ متعددة، وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أسباب هذا الانحراف وبينوه تحذيراً أن يقع الإنسان في مثل هذه الانحرافات التي وجدت فيمن سبق، وأول من حذر عنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.