[القاعدة الأولى: الأصل في جميع الناس هو التوحيد]
الأصل في الناس هو التوحيد وليس الشرك، والدليل على ذلك: أن آدم عليه الصلاة والسلام كان على توحيد الله تعالى، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام وذريته على التوحيد عشرة قرون، وقد دل على ذلك حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدسي: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) .
فأصبح الأصل في الناس هو توحيد الله ليس الانحراف، وقبول هذا الدين، والعمل به، وبقي آدم عليه الصلاة والسلام يبلغ دين الله لأولاده، وأولاده ساروا على ذلك حتى مضى عشرة قرون وهم على ذلك، ودليله: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أو يمسلمانه؛ لأن الأصل فيه هو الإسلام، والأصل فيه هو قبول هذا الدين والعمل به.
سبحان الله! لم تقتضِ حكمة الله أن يستمر الناس على التوحيد إلى أن يلقوا ربهم، وتبدأ قضية الانحراف في مسائل الاعتقاد، وأول انحراف وقع هو في قوم نوح عليه الصلاة والسلام، إذ أنه وُجد عندهم عباد صالحون كما ذكرت كتب السيرة، وورد كذلك لها أصل في الصحيح، كان منهم: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكانوا أهل صلاح وإيمان وتقوىً وزهد وبعد عن الدنيا، وكان الناس يحبونهم حباً جماً، ويفرحون إذا رأوهم أو لقوهم، فإذا شاهدهم أحد من عصرهم يجتهد في طاعة الله تعالى، ويحرص على الانقياد، وقد روي في الأثر: (إن من خير الناس من إذا رأيته ذكرك الله) إذا رأيته تعترف بتقصيرك وتفريطك في حق ربك، وإذ تراه تشعر أنه أنموذجاً فريداً في العبادة والصلاح والتقوى.
ويقدر الله أن يموت هؤلاء في خلال شهر، وحزن الناس على فقدهم حزناً عظيماً، وكانت النتيجة أن جاء الشيطان فقال لهم: ألا أصنع لكم مثل صورهم؛ حتى إذا أردتم أن تنشطوا في العبادة ترونهم فتذكروا الله تعالى وتزدادوا طاعة وقربى؟ وأقول: إن هذه شبهة قد ترد في الذهن، وهذه ذكرى طيبة أن يتذكر الإنسان طاعة الله ويجتهد، ولو جاء الإنسان بمجرد العقل لقال: إن هذا العمل طيب، إذ يذكرنا الصلاح والخير والإيمان، ويمضي القرن الأول وهم على ذلك، ثم يأتي جيل بعده، فأتاهم الشيطان فقال: إن أهلكم لم يضعوا هذه الصور وهذه التماثيل إلا لأنهم يرجون بركتها ويرجون نفعها، فأخذ هؤلاء وبدأت بوادر الشرك بتوسل وبتبرك.
ويمضي هذا القرن، ثم يأتي جيل بعده فقال: إن أهلكم لم يضعوها إلا لأنهم يدعونها، ويستشفونها، ويطلبون العلاج منها وغيره ذلك، فعبدت من دون الله تعالى.
ثم كانت النتيجة أن بعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام إلى هؤلاء القوم، ومكث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الله تعالى.
سبحان الله! نوح عليه الصلاة والسلام تعتبر حياته أعظم مدرسة للدعاة إلى الله تعالى، وللذين يريدون أن ينشروا توحيد الله، فإن نوحاً مكث تسعمائة وخمسين عاماً كان حصيلته: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠] ويقال له بعد هذا الجهد الطويل: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ} [هود:٣٦] .
ويقدر الله بعد هذا الجهد الذي يتعب من أجله نوح في الليل والنهار وفي السر والجهر، وفي مجتمعاتهم وفي أفرادهم، حتى أصبح القوم كلما رأوه استغشوا ثيابهم وغطوا وجوههم، لا يريدون أن ينظروا إليه، ووضعوا أصابعهم في آدانهم لا يريدون أن يسمعوا دعوته، وهم يعلمون ما عنده، ولا يريدون أن يقبلوا منه إطلاقاً، ومع ذلك يستمر ويستمر، كأنها تربية للأنبياء من بعده، ولنا نحن وللدعاة إلى قيام الساعة أننا لا نيأس من هداية أحدٍ كائناً من كان.
إن كثيراً من الأحبة قد ينصح أخاه أو قربيه في معصية، وترى النتيجة بعد ذلك يقطع الأمل بمجرد أن يقول له: لا تنصحني، فإني أعرف ولا أقبل منك شيئاً، وهذا نعتبره خلاف ما كان عليه أنبياء الله ورسله.
وإنا لنرى عجباً وخوارق عجيبة في قصة نوح، كموضع هذه الديار ليس فيها بحار ولا غيرها، ولو رأينا شخصاً من الناس يصنع سفينة في الأرض المجاورة عندنا لقلنا: سبحان الله! لعل في عقله شيئاً، وما تغني السفينة في صحراء قاحلة، وفي أرض ليس فيها أنهار ولا بحار، وأصبح قومه كلما مروا ونظروا إليه سخروا منه، ولكنه إيمان النبي الموقن بوعد الله: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [هود:٣٨-٣٩] .
وينتظر نوح عليه الصلاة والسلام متى ترسو هذه السفينة وتطفو وترتفع، ووعد الله صادق وسيكون لا محالة، ثم دعا نوح بعد ذلك على قومه: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠] وفجر الله الأرض عيوناً، وانهمرت السماء بالأمطار، وأغرقت الأرض كلها، وطفت سفينة الإيمان والتوحيد، ويُحمل فيها نوح عليه الصلاة والسلام ومن آمن معه ومن كان من أهل التوحيد الذين ساروا على منهاج هذا النبي الكريم، ويُحمل فيها أهل الإيمان، ويُحمل فيها ما أمر الله من كلِّ زوجين اثنين.
وسبحان الله! تدرك هذا النبي شفقة الأبوة، وينادي ابنه ولم يكن مؤمناً: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:٤٢] وإننا بمنظارنا الواقعي الحسي المادي أن كل إنسان إذا وجد شيئاً يبحث عن أعلى موقع، فما كان من الابن إلا أن قال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:٤٣] ولكن نوحاً عليه الصلاة والسلام عالم بأن الله مريد إهلاك هؤلاء ولن ينجو إلا من كان معه، قال له كلمة الموقن: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:٤٣] .
ولا زال نوح يتعلق بابنه وفلذة كبده، ويدعو ربه: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:٤٥] ويرد الله عليه مبيناً المنهج إلى قيام الساعة أنه لا رابطة بين أحدٍ كائناً من كان إلا رابطة الإيمان والتوحيد: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي} [هود:٤٦] وتقطع العلائق والوشائج كلها، وتبقى رابطة الإيمان وحدها، ورابطة التوحيد التي ينبغي أن نؤصلها في نفوسنا؛ لنسير على ضوء ما كان عليه أنبياء الله ورسله، وما كان عليه سلف الأمة.