[موقف العلماء من علم الكلام]
لقد ورد عن سلفنا رضي الله عنهم وأرضاهم ذم أهل الكلام، وممن ورد عنهم الذم: كبار أئمة السلف كالإمام مالك رحمه الله تعالى ورضي عنه، فقد قال: "إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله! ما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان" ليس مقصوده ألا نتكلم ولا نوضح تلك العقيدة، وإنما المقصود هو السؤال عن الكيفيات، وهي التي قال فيها الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" دل على أن أهل الكلام والنظر يبحثون عن هذه الأمور ويتعمقون فيها، مما يكون سبباً لانحرافهم وزيغهم عما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد روى عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله عن الإمام مالك: "لو كان الكلام علماً لتكلم فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم، كما تكلموا في الأحكام والشرائع" ولكنه باطل دل على باطله أنه تركه الصحابة والتابعون؛ لأنه باطل لا يستفاد منه.
ولقد سئل الإمام سفيان الثوري رحمه الله: عن علم الكلام؟ فقال: [دع الباطل، أين أنت من الحق؟ اتبع السنة ودع البدعة]] .
وقال: [وجدت الأمر في الاتباع]] .
وقال: [عليكم بما عليه الحمالون، والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاتيب، من الإقرار والعمل]] أي: خذ بعقيدة هؤلاء النساء والصبيان وغيرهم؛ لأنهم أخذوا من المنبع، ولهذا نقل عن الإمام أبي المعالي الجويني والفخر الرازي أنه كان يقول: ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور، يتمنى أن يموت على عقيدة أمه، دل على أنها عقيدة فطرية، وسيأتي من الأمثلة على ذلك.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لأن يبتلى المرء بما نهى الله عنه -يعني: من السرقة والزنا وغيره- خلا الشرك، خير له من أن يبتلى بعلم الكلام.
ويقول الحسن بن محمد بن الصباح: سمعت الشافعي يقول: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في الأسواق، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ الكلام.
ومن الذين ندموا: الإمام الفخر الرازي، ويعتبر الفخر الرازي من كبار أئمة أهل الكلام، فإذا ندم أصحاب أهل الكلام والفلاسفة وغيرهم ورجعوا عن المذاهب الباطلة ثم جاءوا يحذرونا أخذنا بأقوالهم وقلنا: إن أقوالهم حجة.
يقول الإمام الفخر الرازي وهو القائل: "ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور؛ قال في شعرٍ له:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
أي: ما جمعنا شيئاً نستفيد منه، وإنما إن قالوا كذا قلنا كذا، وإن قالوا كذا قلنا كذا، ثم قال كلاماً نفيساً: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} [فاطر:١٠] وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:١١] {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:٢٥٥] ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي".
فدل ذلك على أنه تورط بهذه العلوم، وبعد ذلك رجع إلى ما كان عليه.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن قضية المنطق وغيره، وتكلم عليه وهو علم أهل الكلام وغيره، فقال: إن أكثر ما فيه مما ورد الفطر السليمة تستقل به ولا تحتاج إليه، وقال رحمه الله كلاماً لطيفاً معناه: إن البليد لا ينتفع من علم الكلام، وإن الذكي لا يحتاج إليه أصلاً.
إذاً ما فائدة هذا العلم إذا كان البليد لا ينتفع به والذكي لا يحتاج إليه؟ ثم قال: ومضرته على من لم يكن خبيراً بعلوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكثر من منفعته بهذا العلم، فإن فيه قواعد باطلة لا تنبني لا على عقل صريح، ولا مأخوذة من نص صحيح، ولهذا وقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وقفات من تعلم علم الكلام وغيره.
تكلم الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله وعفا عنه في حكم تعلم علم الكلام في مقدمة كتابه: إحياء علوم الدين، وإن كان هذا الكتاب عليه ملحوظات عديدة، ففيه دعوة إلى التصوف، وفيه نشر أشعريته، وفيه أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة ومكذوبة.
ذكر حكم تعلم علم الكلام وذكر خلاف الناس فيه، فمنهم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال: إنه فرض كفاية، ومنهم من قال: إنه مستحب، ومنهم من قال: إنه محرم وهو قول جمهور السلف في تعلم علم الكلام، والعجب أن نجد كثيراً من الجامعات في بلدان العالم الإسلامي يسمون علم التوحيد: علم الكلام، وهذه التسمية غير صحيحة، بل هي باطلة؛ لأننا نجد سلفنا رحمهم الله تعالى تكلموا على علم الكلام ذامين له، ولم يذكروه من باب المدح.
وما يذكر للناس من العقائد ليس منه، وخاصة ما كان موافقاً للكتاب والسنة، وإلا فإن أكثر البلدان تدرس عقائد الأشاعرة، أو عقائد الماتريدية، وبعضها قد تعرض العقائد عرضاً مجملاً، أو تعرضها عرضاً تخير الطالب فيما يشاء مما يختار، سواء يأخذ عقيدة المعتزلة، أو الأشاعرة، أو الماتريدية، أو يأخذ عقيدة سلفية، يجعلون له حرية الاختيار، وهذا ليس بصحيح.