ذكروا أدباً لطيفاً للعلماء رحمهم الله في الطلب، وأنبه عليه وأرى أنه من الآفات التي تحدث عند الطلب: بعض الأحبة ينتقل إلى طلب العلم على أيدي المشايخ الكبار، ولست أقول: لا يقرءوا عندهم، بل لست ممن يثبط عن طلب العلم ويجثو بركبتيه عند علمائنا الكبار، بعض الأحبة يقول: هذه الحلقات أرفع من مستواك، ويبقى الإنسان بعيداً، أقول: إن هؤلاء مخذلون عن طلب العلم، ولكن الأدب الذي ذكره العلماء في آداب الطلب أدباً نفيساً، قالوا: إن الإنسان إذا سافر إلى بلدٍ لطلب العلم ينبغي أن يمضي له فترة من الزمن، يتقلب في الحلقات الموجودة في البلد كلها، ثم يعرف من يطلب العلم عنده، وقصدي بهذا أن اجلس واجثُ بركبتيك عند هؤلاء العلماء الكبار شهراً وشهرين وثلاثة، ثم وازن بعد ذلك، هل أنت ممن يستفيد أم ممن يشعر بأن فائدته قليلة.
أقول: ينبغي لك أن تبحث عن العالم وعن طالب العلم الذي تشعر بأنك تستفيد منه استفادة كبيرة، وليس هؤلاء العلماء لا تستفيد منهم، بل فيهم الخير وفيهم العلم، وما من حلقة إلا وفيها العلم والفائدة، وفيها من التأصيل العلمي، لكن بعض الناس لا يكون عنده قواعد.
ولذلك أقول للأحبة: كم من طلاب العلم من يجثون بركبهم في حلقات لكنهم سرعان ما يفرون منها، ويصبح حالهم كشخصين: الشخص الأول: يحضر الحلقة للبركة، فيجلس ويبحث عن سارية ليسند ظهره إليها، ثم ما يبدأ الشيخ إلا وقد غاب في غيبوبة كاملة، وبعضهم يجلس نصفها والنصف الآخر يتقدم في روضة المسجد وربما توسد كتبه فأخذ يغط في نوم عميق، وتسأله قال: الحمد لله، نحن من طلاب الشيخ، وقد حضرنا، وأفتانا شيخنا، وقد علقنا عند شيخنا، واستفدنا منه، ولازمناه سنوات، وقد درس على السارية وعلى روضة المسجد أكثر مما تعلم من الشيخ وعلمه.
الشخص الثاني: خرج قادحاً للعلم ولأهل العلم، وهذه سلبية كبيرة جداً، وأقول للأحبة: كم نجد من الأحبة وربما بعض طلاب العلم ينفرون من حلقات علمائنا الكبار، فيقولون: هذه الحلقات إمرار كتب، وليس فيها نفع كبير، وليست إلا قضاء للوقت، وليست مؤصلة للعلم، ولا تخرج طالب علم، ولا تصلح إلا لطلاب العلم الكبار، وخذ من الشبه التي تسمعها، ثم بعد ذلك يصبح عند الطالب قناعة داخلية أن هذه الحلقات إنما تفرج عليها وأحضر إليها من باب البركة فقط، ولذلك أقول للأحبة من الأمثلة: حلقة شيخنا العلامة يوم الخميس يحضرها أعداد كثيرة جداً، أسمي هؤلاء طلاب البركات يحضرون (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) لكنهم هل يؤصلون، يتابعون ويقيدون من الفوائد؟! يحضر يوماً وبقية الأيام لا يحضر، ولست أقول: لا يحضر إلى تلك الحلقة، لو حضر يوماً واحداً ففيه خير كثير.
ولذلك أقول للأحبة: بالنسبة لشيخنا فهو عالم أمة، وما يخرج لك من كلمة هي جهد ستين أو سبعين سنة من الطلب، لا يخرج إلا زبداً ودرراً وذهباً مصفى من الأحكام وغيرها بالحكم على الأحاديث وفتاوى علمية وغيرها قد لا تجدها في الكتب مدونة، ولئن استفاد الإنسان فتوى أو اثنتين أو ثلاث خير له من الدنيا وما فيها؛ لأنه يتبصر بعلم عميق يستفاد منه، ولهذا أقول: ينبغي لنا أن نلازم الحلقات وأن نحرص عليها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأحث الأحبة من لم يستطع حضور حلقات الفجر لسماحة شيخنا فلا أقل أن يحضر الإنسان درساً بعد المغرب في ليلتين، وتقرأ فيها كتب السنة، ويستفيد الإنسان ويعلق فوائد، ويحصل له من الخير العظيم.
أقول للأحبة: ارقَ إلى القمم ولا تنزل فإن في ذلك الخير العظيم الذي يعين الإنسان على مواصلة الطريق والاستمرار فيه، فإنه والله لا أسعد على المسلم من لذة طلب العلم، وربما لا يشعر به إلا من عاشه واستمر فيه، وسبحان الله! لم نجد من منهج استفدناه من شيخنا العلامة أمره عجيب جداً وشخصية نادرة حقيقة، وبالنسبة لم أر مثله في قضية الحرص على الطلب والاستفادة مع كبر سنه، وسبحان الله! لا يجد في نفسه حرجاً أن يستفيد من الصغير أو من الكبير في مثل هذه المسائل.
وأذكر من الطائف أمد الله في عمره على طاعته: زرته مرة يوم الاستسقاء، وكانت الزيارة في الفجر، جلس الشيخ وإذا به طلب من كاتبه أن يقرأ عليه أحاديث البلوغ في صلاة الاستسقاء، والشيخ ليس إمام مسجد ولا خطيب ولا غيره، أحدنا لو قيل له: صلّ صلاة الاستسقاء على طول ذهب إلى كتب الفقه من أجل أن يعرف كم عدد التكبيرات وكيف تتقدم الصلاة قبل أو بعد، ولكنه يؤصل العلم، مما يدل على أن الشيخ يراجع دائماً، وأذكره منذ ثمان سنوات فأكثر ما كان في بعض الدروس يقول حفظه الله: اليوم لا تقرأ فإني لم أحضر للدرس أصلاً، عالم الأمة يحضر! كثيراً من الأحبة يفتح درساً ويقول للطلاب ما هب ودب، يكفيهم قليل من العلم ولا يحتاجون إلى تأصيل، لا، وإنما إذا كان هذا العالم يحضر للعلم، ويحرص عليه ليعرض على الناس علماً يستفاد منه، فكيف بأفراد الناس والمبتدئين في الطلب، فيه الخير والبركة أن يكون الإنسان يحضر الدروس، وهذا يدل على أن الشيخ حفظه الله وأمد الله في عمره ليس فيه قضية التزكية بأنه مفتي هذه الديار، فلا حاجة للرجوع إلى كتب أهل العلم، ولا بحث المسائل، ولا التنقيب عنها، ولا الأخذ بآراء العلماء والاستفادة منها، بل يشعر دائماً أنه في حاجة إلى فهم كلام العلماء وتأصيله وتمكينه.